Translate

الجمعة، 17 مايو 2013

أحذروا الدولة العميقة حتى لا تضيع دولتنا

د. فاطمة الحمروش... عن صحيفة "ليبيا المستقبل"  
 
  
أبارك لأهلي في ليبيا وخارجها بمناسبة سن قانون العزل السياسي بتاريخ 05/05/2012، جعله الله نورا هاديا للطريق السليم لثورتنا المباركة، وأود بهذه المناسبة أن أقول وبصوت عالٍ وواضح: حذاري مما قد يحاك لنا في الظلام، ولنتوكل على الله.
لقد عاهدت نفسي دوما أن لا أكون مبهمة في كلامي، وها أنا اليوم أكرر من جديد قولي: من لا يرغب في ظهور الحق لديه ما يخشاه، أما من يعمل بأمانة صادقا لوجه الله فيكون دوما أول المرحبين بظهوره، ومن يستعن بالله فلا غالب له، عليه توكلت وبه أستعين.
بعد عودتي إلى إيرلندا، شعرت في البداية بإحباط شديد بسبب الكم الهائل من الكذب والإفتراءات التي طالتني من ضعاف النفوس و"أبطال لوحات المفاتيح"، ولكني وبعد فترة من الهدوء إستجمعت فيها قواي، وأعتبرها إستراحة المحارب، أجد نفسي اليوم قادرة على مواصلة مشواري الذي بدأته ضد الفساد وضد الظلم وضد المفسدين.
لم يحدث أن بخلت سابقا، كما لن أبخل حاضرا أو مستقبلا، بكل ما أوتيت من جهد ووقت لنصرة الحق ، مهما كلفني ذلك، وأشكر الله الذي أعطاني من رباطة الجأش ومن الصبر ومن القوة، لأقف بدون وجلٍ أمام هذا الكم الهائل من المفسدين والمنافقين، ولأتسلّح بإيماني بعدالة الخالق لأعمل على فضحهم وكفّ بلدي مما يترتب على أعمالهم من ضرر.

ستتكوّن كتاباتي من:
تعليق على ما يجري في الحاضر، ملحقا بسرد بما يتناسب معه من أحداث عايشتها خلال فترة المعارضة، وخلال فترة عملي كرئيسة للمؤسسة الليبية الإيرلندية للإغاثة، وكذلك خلال عملي كوزيرة للصحة بالحكومة الإنتقالية، ثم أيضا بعد عودتي إلى إيرلندا.
سأُظهر في هذه الكتابات حقائقا تم حجبها وتشويهها من أشخاص، بعضهم أعلمهم وبعضهم لا أعلمهم، ولكني لن أتحفظ عن ذكر أي إسم أو تفاصيل أعرفها وسأرفقها بما يتوفر لدي من وثائق، أما فيما يشاع عني بهتانا فإني أنصح كل من لديه إثبات ضدي أن يقدمه للنائب العام، إذ أن الحديث بأسماء مستعارة لهو حوار الجبناء، ولا يستحق مني الرد.
يكفي هنا فقط أن أن أذكر للقراء أني خلال الفترة التي عملت فيها من السابعة صباحا إلى الثانية صباحا، وسط ضياع المراسلات وأجهزة التنصت في مكتبي وكافة وسائل الإرهاب، والتي لم تنجح في ثني إرادتي وعزيمتي ومن بينها التهديد بالسلاح، والقائمة تطول، كان "أبطال لوحات المفاتيح" يجتهدون في نقدي وفي نشر ما يبث حولي من إشاعات دون أن يقدم أي منهم شيئا صغيرا أو كبيرا إلى ليبيا ولو كان بتنظيف شوارعها من القمامة!!! لن أطيل هنا ولكني لن أرحم أحد، ولن أتحفظ في نشر ما لدي بالإسم وبالتاريخ وبالدليل الموثق، فليستعد من يعرف أني أعنيه هنا بهذا الخطاب..
إن الأحداث المتسارعة التي تجري في ليبيا في الأشهر الأخيرة ليست بظاهرة غير طبيعية، فالثورة في ليبيا لا تزال مستمرّة، وما يحدث الآن رغم صعوبته ورغم عُجالتنا في أن نرى بلدنا مستقراً، سيفرز الغث من السمين وسيفصل بين الأبيض والأسود، وسنخرج به من دائرة الشك والرؤية الضبابية إلى الضوء والوضوح تحت شمس الحق التي نرغب فيها جميعا، وكما كانت هناك التضحيات خلال الفترة الأولى من الثورة بالأرواح وبالمال وبالوقت وبصحة أبنائنا وبسمعة بعضنا، لأجل الوطن، فالدور اليوم يأتي للتضحية بالمناصب في الدولة الليبية الجديدة لإقرار الحق. بعض من سيشملهم قانون العزل السياسي كانوا معارضين لسنوات للنظام الدكتاتوري، وكثيرون منا يعلمون بأن كل ما قدمه هؤلاء لأجل الثورة ولأجل تحقيق آمال الشعب الليبي كان لأجل الخروج من الدولة الدكتاتورية إلى الدولة الدستورية الديمقراطية، إلا أنهم راضون بهذه التضحية التي تظل ثمنا بخسا بالمقارنة بالمكاسب التي سيجنيها بلدنا من موقفهم هذا رغم الظلم البيّن الواقع عليهم، ومن أمثالهم السيد مصطفى عبدالجليل والسيد محمد المقريف اللذان جهرا باستعدادهما لتنفيذ قانون العزل على أنفسهما إذا أقر المؤتمر الوطني بذلك.
إن هذه التضحية لا تضير أصحابها، بل هي شرف للشرفاء وتضاف إلى تاريخ نضالهم ضد الظلم في ليبيا، ونتاج هذا العمل سيكون تصفية وغربلة لأجهزة الدولة من المنافقين والمتسلقين والعاملين على مصالحهم الخاصة، وغير الآبهين بالمصلحة العامة، إنهم هؤلاء المندسون بيننا، الذين يحملون معنا العلم ثلاثي الألوان وينشدون معنا نشيد الإستقلال، وما بقلوبهم لا يعلمه إلا الله، إلا أن أعمالهم تفضح نواياهم، وبسبب تهاوننا معهم تمكّنوا من إعاقة مسيرة الدولة التي طمحنا لها عندما ثرنا ضد سيدهم، لقد أُعْطِيَت لهم الفرصة لمدة عامين فما فعلوا بها سوى جذبنا للخلف وعرقلة مسيرتنا إلى الأمام وتشويه سمعة كل شريف وكل من خالفهم، وعليه فإن قانون العزل هو الفاصل بعون الله، ولا وسيلة لنا للتخلص منهم سوى بإقراره بدون إستثناءات حتى لا ننخدع في المندسين بيننا، ولن يحرمهم هذا من حقهم في المواطنة، بل فقط يمنعهم من تولي مناصبا قيادية يكون لهم فيها حق القرار وتسيير الدولة، وبإذن الله ستكشف هذه الخطوة النوايا، وستسقط أقنعة كثيرة وسنرى وجوها خلفها لم ننتبه لوجودها بيننا بدون هذا القانون.
إن دوافع غضب العامة من أداء الحكومة الإنتقالية والحكومة المؤقتة ليست تجنيا أو من نسج الخيال، بل هي نتاج الواقع الذي يعيشونه، فقد مرَّ أكثر من عامين على إعلان الثورة ولا يزال العاطل عن العمل عاطلا، والمريض لا يزال لا يجد العلاج في المستشفيات الحكومية ويضطر إما للذهاب للمصحات الخاصة أو للسفر للخارج، ولا يزال كل من أراد أن ينجز عملا أو مصلحة مضطراً لأن يدفع رشوة وأن يتواصل مع أحد المتنفذين لكي تتم له أعماله، ولا يزال مبدأ الولاءات هو الغالب بدلا من الكفاءات في أغلب التعيينات في الدوائر الحكومية، ولا يزال التلاعب بالمال العام هو السائد، ولا تزال السجون السرية قائمة، ولا يزال الإستهتار بالحق العام مستمرا، وعليه فإننا بالرغم من ثورتنا على نظام الطاغية فإننا لا نزال نعمل بقوانينه وتشريعاته ولا يزال من يتحكم في إقتصادنا وفي غالبية وزاراتنا هم أنفسهم من كانوا يتحكمون فيها أيام الطاغية، منهم من لم يتغير من موقعه ومنهم من تم تغييره بنقله من وزارة إلى أخرى، ومنهم من إبتعد عن الواجهة ولكنه في الحقيقة لا يزال حاضرا وبقوة، يحقق له أغراضه "الصبيان" الذين يستنفعون  من كرمه عليهم ليبقى وليبقوا.
عليه، فإننا ورغم تغييرنا للعلم وللنشيد الوطني، ورغم تولي بعض الثوار ومن ساندهم عدداً من المواقع القيادية، إلا أن من يتحكم حقيقة في هذه المصالح هم آخرون لا يراهم العامة ولا يراهم المحسوبون على الثورة سواء كانوا وزراء أو مدراء إدارات جدد أو حتى ثوارا، ورغم أن دولتنا اليوم بها المؤتمر الوطني والحكومة المؤقتة، خلفا للمجلس الإنتقالي والحكومة الإنتتقالية، فإن جسما آخرا ظل ثابتا، واستمر موازيا لهذه الأجسام ولم يتغير ولم يدخل إنتخابات ولم يشارك في الثورة ولا يرغب حتى في التغيير، هذا الجسم يعمل كجسم موازٍ لكل ما هو شرعي اليوم، ويستخدم تارة الوسائل المشروعة وتارة وسائلا غير مشروعة تسجل ضد مجهول، إنه ما يمكننا تسميته ب"الدولة العميقة".. وهو ما يجب علينا الإنتباه له والحذر منه حتى لا تضيع أعمالنا أدراج الرياح.. إن الثورة لم تنته بعد، ولن تنتهِ مادمنا لم نتخلص من الدولة العميقة بيننا.
ويمكن تعريف "الدولة العميقة" DEEP STATE على أنها مرادف "للأمن القومي"، فهي حكومة خفية موازية للحكومة المعلنة، أي أنها "دولة داخل دولة"، تنظمها أجهزة مخابراتية وأمنية، بتمويل وسيطرة وتحكّم من أشخاص أو جماعات قوية تمتلك من الإمكانات ما يكفي لتحريك فئات أخرى تنفذ لها برامجها. إن جُل من يشكلون الدولة العميقة هم من رجال الأعمال المتحكّمين في إقتصاد الدولة، ومهربي المخدرات وتجار الأسلحة، والمتاجرين في الهجرة غير الشرعية.. لا يبدو عليهم أنهم يقومون بأي دور في السلطة التنفيذية للدولة ولكن هذه الجماعات تقوم بحماية وضمان إستمرار النظام الذي يحفظ لها مصالحها، وذلك بتنظيم وتنفيذ أعمال عنف غير مشروعة ضد كل من يقف في طريقها، بما فيها أعضاء الحكومة المنتخبة، كما أن الدولة العميقة تظل جزءاً من السلطة التنفيذية بالدولة، ولكنها تنفذ أعمالها بشكل سري، وذلك بتنفيذ عمليات منها المشروع في حال إتفاقها مع القانون، ومنها غير المشروع في حال عدم إتفاقها معه، وتسجّل هذه العمليات ضد مجهول!
ومن خلال هذا التعريف، يمكننا أن نرى أن "الدولة العميقة" هي واقع ملموس في دولتنا، بدليل ما يحدث فيها إبتداء من الأيام الأولى من الثورة إلى تاريخ يومنا هذا، من حصار للوزارات، ومن تفجيرات ومن إعتداء على شخصيات وطنية كما حدث مع السيد وزير الشباب السابق السيد فتحي تربل، ومن إغتيالات كما حدث مع السيد بن عثمان في مصراتة، ومن خطف كما حدث مع السيد قرقوم الموظف في السجل المدني في بنغازي، ومن إغتصاب ومن تهريب في الحدود من المهاجرين غير الشرعيين إلى الأدوية والمعدات الطبية إلى الأسلحة والمخدرات والأغذية منتهيةالصلاحية، وما إلى ذلك من أحداث يومية لا حصر لها في كل أنحاء ليبيا بما في ذلك بث الإشاعات والفتنة وتشويه العناصر الوطنية من رئيس الحكومة المؤقتة أو الوزراء أو أعضاء المؤتمر الوطني ومن قبلهم أعضاء ورئيس المجلس الإنتقالي وحتى رجالنا البواسل ممن يحسبون على الجيش أو الشرطة أو أنصار الشريعة (ولي في هذا حديث آخر لا يتسع المجال هنا للخوض فيه)، إضافة إلى سيطرتهم على وسائل الإعلام.
هذه في مجموعها مؤشرات خطيرة جدا، وبلا أدنى شك تحيد بمسار الثورة وبأهدافها، فبدلا من الإنتقال إلى الديمقراطية نجد أنفسنا اليوم نسير بخطىً واسعة نحو غوغاء لن نعرف مخرجا منها ما لم نقم بإجراءات عاجلة لتغيير هذا الإتجاه.
ومن هنا يبرز سؤال لا بد منه: أين هؤلاء الذين كانوا يشكلون كتائب القذافي؟ أين هؤلاء الذين كانوا في المسيرة المليونية في ميدان الشهداء في طرابلس؟ أين هؤلاء الذين كانوا يرقصون ويغنون في باب العزيزية؟ إنهم بلا شك هم المندسين بيننا في قوائم الجرحى، وفي قوائم هيئة شؤون المحاربين، وفي قوائم الثوار المطالبين بالمكافآت، وفي قوائم الإيفاد للدراسة بالخارج، وهم من يعرقلون أعمال  كل الوزارات والمصالح الحكومية، وهم ليسوا بظاهرين إلا أنهم لا يزالوا يحاربوننا ولا يزالون يعملون لأسيادهم، فهم لم ولن يكونوا يوما مؤيدين للثورة، وهم من يصطادون في الماء العكر..
إن الذي نشهده من فوضى وانفلات وتمرد على السلطة، لا يتفق مع دولة السلم والسلام، والأمن والأمان، التي نرغب بها جميعا بمن فينا الثوار الذين يشاركون ببعض هذه الأعمال، مما يثير تساؤلات يتوجب علينا الوقوف عندها وقفة جادة مع مواجهة صادقة للنفس بدون مجاملة، لنسأل أنفسنا: لماذا يحدث هذا؟ من وراءه؟ ومن المستفيد؟.
نتفق جميعا على أن كل ما يحدث، يتم بأيادٍ ليبية متعددة التوجهات، كما أننا نتفق أيضا على أننا جميعا سواء كنا سلفيين أو إخوانيين أو علمانيين أو معتدلين، فإننا نجتمع تحت مظلة واحدة وهي الخوف من ضياع الثورة وسرقتها ممن قامت الثورة ضدهم أصلا.
(2)
سأبدأ كلامي اليوم بوصف الساعات الأخيرة التي قضيتها في ليبيا قبل مغادرتي، وذلك بتاريخ 19 نوفمبر 2012، كان موعد طائرتي الساعة الواحدة ظهرا، ولكني كنت على موعد عند العاشرة مع شخصية أتحفظ الآن عن ذكر إسمها لأسباب تتعلق بالمهمة التي كلّفته بها ذلك الصباح، وقد سلّمته ملفات تكشف خبايا كثيرة وكماً هائلًا من الفساد في الوزارة وفي هيأة شؤون الجرحى. طلبت منه إعداد تقرير لرفع دعوى ضد من تتواجد لدينا ما يكفي من الأدلة ضدهم. سبق أن سلّمت جزءا من هذه الملفات إلى السيد سليمان زوبي والنائب العام ووزير الداخلية السابق السيد فوزي عبدالعال.
بتحفظي على إسمه، فإني أعطيه الفرصة للتصرف في ما سلمته من ملفات بحرية وبما يمليه عليه ضميره والقانون، ولا شك لديّ أنه لن يخذلني، وسأترك له الحديث متى شاء.
لقد خشيت ضياع هذه الملفات بعد مغادرتي، إذ أن جميعها كانت شهادات إثبات لا تدع مجالا للشك في تورط إداريين وشركات وسفراء وملحقين صحيين ومراقبين ماليين ومشرفين على علاج الجرحى (منذ المكتب التنفيذي إلى الحكومة الإنتقالية)، إحتوت تلك الملفات أيضا على مصادر الصرف (آلية الدفع المؤقتة، ووزارة النفط والمالية خلال فترة المكتب التنفيذي، ووزارة المالية خلال الحكومة الإنتقالية)، وتفاصيل الصرف على هذا الملف بالأرقام والتواريخ، إضافة إلى تقارير شركة التدقيق المالي والتي تمكنا من خلالها من تعديل الفواتير، مع تفاصيل كثيرة عن المشتركين في توزيع الحصص بينهم للإستفادة من الأموال المرصودة لعلاج الجرحى.
لقد قطعت بيني وبين الله عهدا بأن يتم تتبع كل من تاجر في أبنائنا وبعثر أموالنا وأساء إلى سمعة الثورة وسمعة بلدنا، وتقديمهم للعدالة. آمل من ألله أن يعينني على أن أفي بوعدي بمعونة جنودنا المخلصين الصادقين، هؤلاء المجهولين اليوم والخالدة أعمالهم غدا، حفظهم الله ورعاهم وحفظ ليبيا من كل مكروه.
لن يصح إلا الصحيح، ومن يتوكل على الله فلا غالب له والحمد لله.
عند الحادية عشر والنصف جاءت الحراسات الخاصة بي إلى مقري لنقلي إلى المطار، وكنت قد تلقيت وحرسي الخاص العديد من التهديدات بالقتل في الآونة الأخيرة، وذلك ممن تغلغلوا بين صفوف الثوار، الأمر الذي اضطرني إلى الموافقة على تكثيف الحراسة عليّ على مضض في الأشهر الأخيرة، حيث أن مجرد حاجتي للحماية جعلني أشعر بدرجة كبيرة من الظلم، فما قدمته وما قدمه من عملوا معي خلال تلك الفترة العصيبة نستحق عليها وسام بدلا مما طالنا، ولكن الله والتاريخ سينصفنا جميعا ولن يُرحم من أفسد أو أراد الإفساد.
عند المدخل الرئيسي للمقر لاحظت تواجد عدد كبير من الجنود، ولكني لم أنتبه إلا حين سمعت الحارس المرافق لي يقول: "أستأذنك بالتوقف هنا، ولا داعي لخروجك من السيارة، يمكنك أن تودعيهم منها، فهم بانتظارك للسلام عليك فقط!" .. نظرت إليهم، لقد كانت كتيبة كاملة هناك بانتظاري، شباب في مقتبل العمر، إنهم من هوّن عليّ وحدتي في ذلك المكان، وهم من سهروا على حماية من وما أمكنهم حمايته وشملوني برعايتهم.. كان يبدو على وجوههم التأثر والبراءة..
فكّرت: "هؤلاء الرجال، إنهم أمل المستقبل، وها هي الحيرة ترتسم على وجوههم بشكل مؤلم، مّرَّ كل هذا الوقت وبُذِلتْ كل هذه التضحيات، ولا يزالون لا يثقون بما يخفيه لهم المستقبل، يالها من معادلة!"
رفضتُ أن أودعهم من السيارة، فنزلت ونظرت إليهم، كانوا جميعهم في ربيع عمرهم، منهم الطالب الذي لم يكمل دراسته ولكنه لم يستطع أن يرجع إلى فصله الدراسي خوفا من أن تتم خيانته متى سلّم سلاحه، ومنهم خريج الجامعة ولكنه لو لم يستسلم لواقعه ويقرر البقاء في الجيش سيستمر في بطالته، ولن يتمكن من توفير دخل يُمَكِّنَهُ من العيش الكريم، ومنهم أيضا من كان يتمنى أن يلقي سلاحه ويرجع إلى عمله السابق، ولكن الثقة بواقع الحال لم تدخل قلبه بعد ليفعل..
مدّ لي أولهم يده ليسلّم.. فلم أستطع إلا أن احتضنه، وبكيت... لقد فاجأتهم وفاجأت نفسي أيضا ببكائي، ولكني شعرت حينها بصعوبة فراقهم، إنهم أبنائي.. أبناؤنا... إنهم من ضحى بكل ما لديهم على أمل أن يكون مستقبلهم أكثر شروقا، لقد قاموا بما لم نستطع أن نقوم به نحن في عمرهم ثم سلّموا لنا الأمانة... بكا معي الرجال.. ولم تكن هذه المرة الأولى التي أجد نفسي أبكي مع جمع من الرجال الأقوياء، تلك  الدموع لا تُنقص منهم شيئا ولا تُنقص مني شيئا، بل هي لحظات تعجز فيها الكلمات عن وصف ما نشعر به.. وأعلم أيضا أنها لن تكون الأخيرة..
لا يكفينا الدعاء بأن يحفظ الله بلدنا، بل علينا بالعمل، إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.. فلنحسن العمل، إن الطريق أمامنا لا يزال طويلا ولا يزال شاقا، ولكن لنعمل لكي لا نخذل تلك الوجوه البريئة الطيبة الحبيبة، رعاهم الله وحماهم وجعلهم ذخرا للوطن..
*********
لقد حذّرت في الجزء الأول من "الدولة العميقة" وأوضحت أنها تتمثل في المندسِّين بيننا، يتحدثون بلغتنا ويرفعون العلم ثلاثي الألوان معنا، وينشدون نشيدننا، ويتشدقون بالثورة ولكنهم لا يؤمنون بمبادئها ولا هدف لديهم سوى الحفاظ على مصالحهم فقط لا غير. إنهم اليوم يحاربوننا ولا يزالون في خدمة أسيادهم، ولم يكونوا حقيقةً يوما مؤيدين للثورة، كما أنهم ليسوا بجدد علينا، بل هم أقدم من الثورة نفسها وأقدم من المجلس الإنتقالي والمؤتمر الوطني والمكتب التنفيذي ومن بعده الحكومتين الإنتقالية والمؤقتة....
توقع مني الكثيرون أن أغيّر مدراء الإدارات بمجرد وصولي للوزارة، إلا أن هذا المفهوم لم يكن لديّ حينها حيث أنني أؤمن بالولاء للوظيفة بدلا من الولاء للأفراد، وتوسَّمت خيرا فيمن كانوا من قبلي، ولكني تفاجأت خلال الأسبوع الأول بأن مدير مكتبي قد تم تعيينه منذ أسبوع فقط قبل وصولي للوزارة من قبل سلفي، وكذلك سائق سيارتي الذي أعلمني بأنه تعيّن مع مجيئي وكان إبن خالة رئيس الملف الصحي بالمكتب التنفيذي د بركات، كان وكلائي أيضا معيَّنين من قبل رئيس الوزراء، وهم د فهمي حمزة، ود المهدي الورضمي، ود عياد عبدالواحد.
خلال أول أسبوعين لي في الوزارة، لاحظت الكم الهائل من الفوضى الإدارية والأعداد التي ترد إلى مكتبي للحديث معي والتي تصل إلى العشرات وفي بعض الأيام إلى المئات! لم يكن من الممكن بأي حال من الأحوال التقيد بأي برنامج بل لم يكن من الممكن حتى قراءة رسالة واحدة أو الرد عليها في خضم هذه الأفواج المتتالية، والتي تبدأ في الورود للوزارة بموعد وبلا موعد من الثامنة صباحا إلى الحادية عشر مساءً، بل حتى يوم الجمعة والذي لم يكن يوم عمل سوى خلال فترتي الوزارية، ولكن بقدرة قادر كان الجميع يردون إلينا! (تبين لنا فيما بعد أن حراسة الوزارة كانت متآمرة على الوزارة وكان الحراس يقوموم بالإتصال بالمخربين ليأتوا إلى الوزارة بمجرد دخولي إليها!!) ورغم كل المحاولات للإيضاح بأن هذا السلوك يعرقل عمل الوزارة، إلا أنها كانت جميعها تذهب سدى، واستمر هكذا الحال إلى أن إنتقلت إلى مقر الدعوة الإسلامية وأصبح الدخول لمكاتب الوزارة بالدعوة بإذن من البوابة الرئيسية بحراسة عناصر وزارة الدفاع.
مما أثار إستغرابي أيضا كان الضياع المتكرر للبريد الصادر وتأخر البريد الوارد، بالإضافة إلى ظهور هذه المراسلات على الفيس بوك قبل وصولها إلى وجهتها وخلال نصف ساعة من تحريرها!!
لم تمر ثلاثة أسابيع حتى أصبح واضحا لنا أن العرقلة التي كنا نواجهها كانت صادرة من عدد لا يحصى من موظفي الوزارة والكتيبة المكلفة بحراستها، تمكنت من التعرف على القليل فقط من الموظفين المسؤولين عن هذه الفوضى، وتم نقلهم إلى جهات أخرى بعيدا عن الوزارة أو إرجاعهم إلى الجهات التي كانوا منتدبين منها، بينما ذهبت مراسلاتي لوزارة الداخلية لتغيير كتيبة الحراسة أدراج الرياح، بل وليس هذا فقط إذ أني فوجئت بعد لقاء مطوّل مع السيد طارق زامبو، رئيس اللجنة الأمنية العليا آنذاك، بأنه قام بتثبيت هذه الكتيبة بالوزارة بقرار رسمي، وكان تبريره على حد قوله هو أن هناك إعتبارات أخرى يجب الأخذ بها، وكأن تلك الإعتبارات أكثر أهمية من مصلحة الوزارة وسلامة موظفيها! ولي في هذا الموضوع حديث آخر لا يتسع المجال هنا للخوض فيه.
كان لا بد من تعيين بدلاء، وحيث أن مدة الحكومة كانت قصيرة، إضافةً إلى أن غالبية أعمالها كانت تعني بالتعامل مع الأزمات خلال الفترة الإنتقالية، فقد كانت حاجتنا عاجلة إلى عناصر وطنية تملك الكفاءة وجديرة بالثقة، ولإيماني بأن نساءنا لم تعقم من إنجاب الأوفياء لوطننا فقد توسمت الخير، ووضعت الثقة فيمن توقعت أنهم كانوا أهلا لها من أعضاء المجلس الإنتقالي أو الوكلاء أو بعض مدراء الإدارات أو من رؤساء المجالس المحلية بمناطقهم. لم يتم الإعلان عن الوظائف بالشكل المعتاد، بل إكتفينا بقبول بعض السير الذاتية إضافة إلى ضمانة من بعض من ذكرتهم أعلاه، إلا أننا فوجئنا فيما بعد بأن غالبية هذه التوصيات لم تكن للمصلحة العامة بل كانت لمصالح خاصة فقط، ولم يكن ميزان الوطنية أو الكفاءة أو الثقة من الأمور ذات الأولوية لمن أوصوا بهم.
أمر آخر فاجأني، كانت درجة الأمية لدى غالبية خريجي الجامعات الذين تم تعيينهم في الوزارة عالية جدا، فعدد كبير منهم لا يستطيع حتى الكتابة بدون أخطاء إملائية، ناهيك عن القدرة عن التعبير في رسالة رسمية، بل أن بعضاً ممن تقدموا لوظيفة السكرتارية وتحصلوا عليها، كانوا غير قادرين حتى على الطباعة، وكان كل هم جزءاً كبيراً منهم إيصال المعلومات إلى الفيسبوك أولا بأول، أو إلى أطراف أخرى لهم علاقة بهم بال س م س ولهم بعض المصالح التي يرجون أن يقضوها من خلال وجودهم بالوزارة، أحد هذه الأمثلة كان مدير مكتبي الأخير الذي كان لا يزال تحت التجربة خلال شهر يوليو وأغسطس 2012، وكذلك مديرة إدارة الإعلام بالوزارة السيدة فوزية الطشاني والتي تم إقتراح تعيينها من طرف د هدى قشوط، ليصدر فيما بعد فيها، بعد ثمانية أشهر، قرار من هيئة النزاهة بعدم توفر شروط النزاهة فيها لنشاطها باللجان الثورية في طرابلس المركز! لقد كان لهذه السيدة دور كبير في تأليب الإعلام على الوزارة وفي محاولة تمرير عقود لأزلام النظام السابق كشركة الصقر الأخضر التي كان يملكها محمد المنصوري الذي تربطه علاقة نسب بعبدالله السنوسي، وقد حاولَتْ هذه السيدة تمرير عقود الشركة المذكورة بطرق شتى، ولكنها فشلت بسبب تحويلي للملف إلى ديوان المحاسبة. فما كان منها بعد تنحيتها من الوزارة في أغسطس 2012 إلا أن شنّت عليّ حملة إعلامية شرسة ساعدتها فيها أختها عواطف الطشاني بصفتها وكيلة وزارة الثقافة والمجتمع المدني في الحكومة الإنتقالية ثم بعضا من الوقت كوكيلة لوزارة الثقافة في الحكومة المؤقتة.
********
بعد أسبوع من مجيئي للوزارة في نهاية نوفمبر 2011، قدم مدير مكتبي إستقالته وقبلتها، ولكني وجدت نفسي بدون مدير مكتب، وقد كانت أختي في زيارة لي، وعرضت عليّ أن أعيّنها في مكتبي لمساعدتي، فقد كانت تعمل خبيرة قضائية في وزارة الصحة، وكانت رئيسة مؤسسة سيف الإسلام القذافي لحقوق الإنسان قبل الثورة، فوافقت وطلبت منها أن تنتقل إلى طرابلس كمديرة لمكتبي لكفاءتها ولقناعتي حينها بأن ليس كل من عمل مع النظام السابق كان مفسدا ( وليس كل من عارضه أيضا كان مصلحا).. وكذلك لعلمي بأن ساعات العمل ستكون طويلة، إلا أن هذا القرار تسبب لي في الكثير من المشاكل وتم إتهامي بتفضيلها بصفتها أختي، والحقيقة هي أني ما فعلت ذلك إلا لظني بأن خبرتها في وزارة الصحة في بنغازي ستكون مفيدة للوزارة.
طلبت منها تقديم إستقالتها إستجابة لطلب الكثيرين وثقة مني بأني سأجد من سيحل محلها، بالإضافة إلى عدم ضمان سلامتها وخشيتي من أن يعتدي عليها أحد بسبب تلك الأقاويل، فطلبت منها تقديم إستقالتها.
صاحب قرار قبول إستقالتها قرارين آخرين، لقبول إستقالة د. هدى قشوط وإعفاء د فهمي حمزة من وكالة الوزارة، وذلك بعد أن نشب بينهما عراك في مكتبي وخارجه وصل إلى التهجم اللفظي من وكيلي تجاهها وتجاهي أيضا، كما تبين لي أنه كانت له يد في عدم وصول مراسلاتي إلى وجهتها وضياع البريد المصور الذي كان من المفترض أن يصلني، عرضت أمر إعفائه من عمله كوكيل، لعدم توفر مناخ العمل بيننا، على السيد مصطفى عبدالجليل والسيد عبدالرحيم الكيب فوافقاني، ولكن كان لدى السيد الكيب شرط وهو أن أقيل د هدى واختي أيضا، ففعلت للحد من المشاكل التي بدأت تظهر بسببهما أيضا.
كان أمر إقالتهما بداية لحرب إعلامية إشتركت فيه الإثنتان، ثم لحق بالركب آخرين خلال الأشهر التالية، ولكم خجلت لهم جميعا، إذ أن كل ما صدر منهم كان دافعه الرغبة في البقاء في المناصب، وبينما كنت منشغلة في العمل كان كل همّ هؤلاء إفشالي وإفساد أي مجهود يمكنه أن يؤسس للمرحلة القادمة في الوزارة، وكما صرّح بعضهم "لكي لا أمدد مدتي فيها"! لم أرد على أحد حينها، ولكني أؤكد لهم ولكل من إعتقد أني جئت لهذه المهمة حبا في منصب الوزير أو ميزاته، أني ما جئت إلا ظنا مني بأنني سأواصل خدمة وطني بصلاحيات أكبر مما كانت لديّ كرئيسة لمؤسسة إغاثية، أو كمستشارة لديها من المعارف في بلد الغربة ما يكفي لخدمة الوطن، وحيث أني نجحت في تلك المهام، فقد إعتقدت أني كوزيرة سأتمكن من تقديم ما هو أكثر لثقتي في نفسي ووطنيتي وخبرتي في الإدارة، ولكن ما لم يكن في الحسبان هو أن أجد نفسي مع عدد لا يتعدى عدد الأصابع لتسيير وزارة بمستشفياتها وبفروعها، غالبية من بها لا يملكون من الأخلاقيات المهنية أو الطبية أو حتى الإنسانية ذرّة، الأمر الذي يجعلني أتساءل مرارا وتكرارا: ما هو ميزان الوطنية عند هؤلاء؟ هذا سؤال يحتاج إلى تأمل طويل، ولا أعرف إن كنت حقيقة أرغب في أن أجد الإجابة! فقد إمتنع الكثيرون عن العمل للنهوض بخدمات الوزارة لعدم حصولهم على مرتب مرتفع أو لكي لا تتحسن الخدمات الطبية و"آخذ الفضل" على حد قولهم، وأخص بهذا التعبير الأخير عدد كبير من أطباء المهجر، حيث أني وبعد أن فقدت الأمل في أن تقوم إدارة الخدمات الطبية بالوزارة باستجلاب الاطباء بسبب البيروقراطية القاتلة  وكذلك بسبب ضعف مرتبات الأطباء بليبيا، وفشلي في زيادتها بسبب الرفض المتكرر لرئيس الوزراء بتعديل لائحة 418 بحجة أن مرتبات الدولة كافة بحاجة إلى تعديل وليس فقط مرتبات الأطباء، الأمر الذي تسبب في عزوف الجميع سواء كانوا أجانب أو ليبيين من القدوم للعمل في ليبيا، طلبت من السيد الفاضل د عادل الرتيمي المقيم بلندن، أن ينزل إعلانا في المنظومة الخاصة به، والتي بها حوالي 2000 طبيب ليبي من شتى أنحاء العالم لدعوتهم للعمل في ليبيا للنهوض بقطاع الصحة ولتدريب الأطباء الجدد وتحسين مستواهم، فرد عليه 40 طبيبا فقط بالقبول، بينما إعترض الكثيرون على تعاونه معي ووصل ببعضهم تهديده بسحب أسمائهم من المنظومة وذلك لتوليه "الدعاية لي" حسب تعبيرهم!!! وللأسف حتى هؤلاء الأربعين، لم تتم إدارة الخدمات الطبية بالإتصال بهم رغم إستعدادهم للقبول بالمرتبات المحلية!
وفي نفس المضمار، قمت بتقديم عرض بعقود خاصة لليبيين في المهجر حيث أن القانون يجيزلي كوزير بأن أعقد عقودا خاصة لمائة طبيب، وكان في السابق يتم إعطاؤها للأجانب ففضلت أن يستفيد منها الليبيين فالأجانب ليسوا خيرا منهم ولا هم أحرص على ليبيا منهم، وقمت فعلا بتوقيع ثلاثة عقود، ففوجئت برفض المستشفيات في طرابلس لهم بحجة أنهم ليسوا بحاجة لهم، مما أضطر احدهم للعمل في أحد المستشفيات القروية، والأخرى طبيبة نساء وولادة قررت العمل في قطر، بينما تركتُ الثالث يجرب حظه حين تركت الوزارة. بالطبع لو أن الأوضاع مختلفة، لكنت أحلت مدراء المستشفيات الرافضين إلى المجلس التأديبي، ولكني أعلم جيدا أن بإمكان هؤلاء أن يستعينوا بنائب رئيس الوزراء لينقض قراري أو يعدوا كتبية لمن يستدعيهم لإرهابهم، كما حدث مع لجنة التسليم والإستلام في مركز طرابلس الطبي بعد صدور قرار إعفاء د. خالد اوريّث من عمله لعدم كفاءته!

ألسنا في دولة الحريات اللا محدودة؟
توالى عليّ ست مدراء مكتب، ولكل منهم قصته، ولم أجد أن أحدا منهم كان قادرا على أداء العمل المطلوب منه أو تحمل مسؤوليته، وفي النهاية قررت أن أكمل الشهرين الأخيرين بدون تعيين أي مدير مكتب.
من الطريف أيضا، تبين لي في شهر مايو 2012 وجود جهاز تنصت في مكتبي يرسل إلى مسافة ثمانية كيلومترات! وانتهى الأمر بإزالته وتبليغ وزارة الداخلية، ولم يتم التحقيق في الموضوع إلى يومنا هذا.
هذا جزء من كثير، وسأتطرق إلى أمور أخرى خلال كتاباتي حسب المناسبة كل مرّة.
(3)
بعد نشري للجزء الثاني من هذه السلسلة، وصلني كمّ كبير من المكالمات والإيميلات، من حقوقيين وآخرين أعرفهم وأثق في وطنيتهم وفي أن ما قدموه ولا يزالون يقدمونه لليبيا من تضحيات خالصة لوجه الله وللوطن.
طلب مني بعضهم المزيد من التفاصيل، والبعض الآخر طلب نسخا من الملفات التي سلّمتها للمسؤولين الذين ذكرتهم.
كذلك فقد قرأت أيضا بعض التعليقات على الفيسبوك، منها الواعي ومنها الأقل وعيا، ومنها الراقي ومنها المتدني، ولكني سعدت بها جميعا، إذ أني على يقين كامل بأنك "تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت"، وعليه، فسأتضمّن في كتاباتي ردودا على كل ما قيل في حقي، وفي حق كل من عمل بإخلاص للوطن، وأراهم "أعزاء قوم يرادُ لهم أن يُذلُّوا"، آملة من الله أن أنصف بكتاباتي من يستحق الإنصاف، وأفضح من يستحق الفضح، إحقاقاً للحق، وعليه فإني قد توكلت على الله في أعمالي وأقوالي، ومن يتوكل على الله فلا غالب له.
أؤكد للجميع أني لم آتِ لوظيفة الوزير لأجل مالٍ أو منصب، بل إن ما جاء بي كان إيماني بمسؤوليتي تجاه وطني، وثقتي بما أحمل بين جوانحي من حب وإخلاص لبلدي ولأهلي، ورضيت بكل ما واجهته من شقاء وتعب، فيما عدا شيئا واحداً ألا وهو إهانة كرامتي، والتشكيك في وطنيتي، وزعزعة الثقة فيّ، وهو ما لم ولن أرضى به تحت أي ظرف أو حال، كما أني لم آخذ معي درهما واحدا فوق مرتبي الهزيل، ولو كنت أرغب في مال الدنيا أو الراحة، لما تركتها خلفي حيث كنت أنعم بها، ولَمَا خرجتُ من الوزارة مديونة، وها أنا أعمل بعرق جبيني لأسدد تلك الديون التي تراكمت عليّ خلال عملي في الوزارة.
كنت أود أن لا أتطرق لما سَيَلِي، ولكني وجدت نفسي مضطرة لذلك، لما لاحظت من تكرارٍ لموضوعين يبدو أن الكثير إستاء منهما ظناً بأنها حقائق، ولكي أضع النقاط على الحروف وينتهي هذا اللغط، فإني أؤكد لكل من يقرأ هذه الأسطر بأن ما أشيع بأني قد قمت بذم شعب ليبيا أو نسائها، ليس سوى محض إفتراء ولم يصدرعني بتاتا:
1. فاللقاء الذي كان محتواه كلام يزعم بأني أتهمت فيه النساء الليبيات بأمورٍ تسئ لهن والذي تناقلته وسائل الإعلام، كان من نسج خيالٍ آثمٍ مريض ولم يحصل أبداً، أنصح الجميع بأن يبحثوا عن الأصل ولن يجدوه، لأن ببساطة: لم يكن هناك لقاء!
2. كذلك فإن ما قيل بحقي بأني نعتّ الشعب الليبي بأوصاف سيئة بعد عودتي إلى إيرلندا لم يحصل، لقد تمت دعوتي كضيفة شرف في مؤتمر عن الأخلاقيات المهنية الطبية، وذلك احتراما لي وتقديرا لإخلاصي لوطني واحتراما لشعب ليبيا، وألقيت كلمة ترفع رؤوس كل الليبيين الشرفاء وكنت فخورة بشبابنا الذين قاموا بما لم نستطع أن نقوم به حين كنا في عمرهم، كما تحدثت عن التحديات التي نواجهها لبناء ليبيا الجديدة وإيماننا كشعب يرغب في بناء دولة الديمقراطية بأننا ماضون في الطريق الصحيح رغم الصعاب، فقام صحفي بنشر تعليقه على المؤتمر وعلى الكلمة واختار لمقاله عنوانا لم يصدر مني ولم يستشرني فيه ، وقد كان ذلك لكي يجتذب فضول القراء، وقد طلبت من الصحيفة والصحفي الإعتذار رسميا من خلال الإجراءات القانونية المتبعة في هذه الدولة بعد أن إعتذر لي شفويا، ولكن  إستغل المغرضون الفرصة، وقاموا بترجمة العنوان دون التطرق لمحتوى المقال، ونُسِب إليّ ذلك بهتانا لإثارة الرأي العام ضدي وإستمراراً في "الإغتيال الإعلامي"، كما وصفه لي مرة السيد محمود شمام!
**********
من خلال سردي للأحداث يتبين مدى تغلغل الدولة العميقة، ودور الطابور الخامس لخدمة أهدافها وكذلك دور العامة بدون أن يعلموا بأن ما يقومون به ليس سوى مساهمة في مساعدة عدوّهم، سواء بنشر أكاذيبهم أو بصمتهم عن قول الحقيقة أو مواجهة الفساد والمفسدين والمخرّبين، فوزارة الصحة ووزيرتها هم مجرد أمثلة فقط من شبكة كبيرة تشمل الدولة بكاملها، وهي عيّنة من الممارسات التي تصبّ في تحقيق أهداف هذا البرنامج، وما أقوله ينطبق على جميع وزارات الدولة، سواء في الحكومة الإنتقالية أو المؤقتة، وكذلك في المجلس الإنتقالي والمؤتمر الوطني، والمكتب التنفيذي للمجلس الإنتقالي.
ولكي يجد القارئ بعض الأجوبة، ليسأل نفسه: متى بدأت الهجمة الإعلامية على وزيرة الصحة؟  ستجدون الإجابة بمجرد البحث في محرك الجوجل: لقد بدأت بمجرد أن أعلن إسمي كوزير للصحة، أي قبل حتى أن يرى مني أحد خيرا أو شرا!
ليسأل الجميع: لماذا؟  ثم ليبحث عن مصادر تلك الحرب، سيرى أن عددا كبيرا ممن كرروا ما يقال قد إنجَرّوا وراء الشائعات، وقاموا بترديدها بدون أن يتبيّنوا، منهم بعلم ومنهم بدون علم، وقد ساهموا بهذا في خدمة أعداء الثورة وبرنامج إفشال الحكومة الإنتقالية.. وبلا شك فإن هذا يحيد بمسار الثورة إلى ما يخدم أعدائها فقط، وأنصح الجميع من جديد أن يحذروا الدولة العميقة.
**********
أود بالمناسبة أن أشير هنا إلى جانب لا يعرفه الكثيرون، كان له دورا كبيرا في هذه الحملة المغرضة تجاهي حتى قبل أن أتولى وظيفة الوزيرة.
لقد كنت أكتب باسم الليبية، وقد حاول النظام السابق التعرف عليّ، فأرسل لي بعض الأشخاص للتقرب مني ومعرفة إسمي الحقيقي، وأذكر منهم السيد رمضان جربوع، الذي طلب من السيد حسن الأمين أن يعرّفه بي حيث أن كلانا كان يكتب في ليبيا المستقبل، وقام في نفس الفترة بالإتصال بصديقي العزيز السيد محمد بن احميدة، رحمه الله، وقد قابله في هامبورج وعلم منه أنه يكتب باتفاق مع سيف الإسلام القذافي بشرط أن يتصل به سيف ليكف متى رأى أنه تعدى الحدود الحمراء!! إتصلت بالسيد جربوع برقم مخفي، وقد حاول السيد جربوع معرفة إسمي أو الحصول على إيميلي أو معرفة بلد إقامتي، ولكني رفضت لعلمي بأنها الطريقة لمعرفة هويتي للنظام السابق.
تم التعرف على هويتي بمجرد إعلاني عنها يوم الإعلان عن الثورة المجيدة في السابع عشر من فبراير 2011، فبدأت الحملة ضدي من الجيش الإلكتروني ومن الطابور الخامس، ويشمل هذا بعض من الجالية الليبية في إيرلندا، لتتضاعف وتقوى هذه الحملة الشرسة مع توليي لمنصب وزير الصحة بالحكومة الإنتقالية.
وقد كان جزءاً من مصادر هذه الحملة من بعض أعضاء الجالية الليبية في إيرلندا، وحتي لا يطول الحديث في هذا المضمار، سأختصر القول هنا في الفقرة البسيطة التالية، إلا أني قد أتطرق إلى تفاصيل أكبر في مقال آخر فيما بعد، إذا رأيت ضرورة لذلك:
جزء كبير منها كان بسبب نجاحي الوظيفي في إيرلندا كمستشارة ورئيسة لقسم العيون بمستشفى تعليمي بها، واحترام الدولة الإيرلندية لشخصي لما كسبته من سمعة وثقة، ثم تبع ذلك تأسيسي للمؤسسة الليبية الإيرلندية للإغاثة خدمة لبلدي منذ بداية أحداث فبراير 2011 والتي غطت جميع أرجاء ليبيا والمخيمات في تونس.
إضافة إلى ذلك، فعندما قامت الثورة، لم أقف موقف العاجز المتفرج مثلهم، وقد كان العدد الفعلي الذي عمل معي من الجالية الليبية في برنامج الإغاثة لا يتعدى الستة أشخاص، وهم من خدموا بإخلاص وبصمت، ولم يطلبوا مقابل، سأذكرهم هنا إحتراما لهم وتقديرا وعرفانا بمواقفهم الوطنية الخالصة، إنهم السادة عبدالله النيهوم، وعلاء الدين لاغا، ونزار الفيتوري، ومفتاح المنتصر، وبشيرفريج، كما أشكر كل من دعموا ماديا عمليات النقل للحاويات الإغاثية، سواء من الجالية الليبية في إيرلندا أو من كافة أرجاء العالم.
وبالطبع فإن توليي لمنصب الوزير، رغم أني إعتبرته تكليف لا تشريف، فإنه كان في نظر قصيري النظر وضعاف النفوس غنيمة تمنوا لو أنها كانت من نصيبهم، ولم يدر بخلدهم أنها كانت من أصعب المهام التي يمكن لبشر أن يتولاها، وأني ما قبلتها إلا تلبية لنداء الواجب، وقد كانت بالفعل من أشد الإبتلاءات التي مررت بها في حياتي، وكانت إختبارا من الله في ذمتي المالية ووطنيتي ومهنيتي، وقد وفقني الله في إجتيازها بأمان، وله الحمد، فمكسبي الشخصي فيها كان أني إلتقيت وعملت مع عدد من أبناء وطني المخلصين الذين لولا هذا الإختبار الصعب لما كتب لي شرف التعرف عليهم، وسيظلون لي إخوة ورفاق عمر ما حييت. يؤسفني هنا أن أقر بأني مع هذا قد فقدت الكثيرين ممن توسمت فيهم الخير، وتوقعت أن يكونوا أسمى من الحضيض الذي شهدتهم يغوصون فيه، ولكنها إرادة الله، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. الحمد لله على ما أعطى وعلى ما أخذ.
لم يكن  بودي الحديث عن هذه الأمور التي أخجل لأصحابها بسببها، ولست أخطّ هذه الحقائق لغرض التشهير، إنما لإيضاح الحقيقة ولوضع النقاط على الحروف لمن إنخدعوا وانساقوا وراء الأكاذيب، ولأجل المصلحة العامة، فالصمت في هذه المرحلة لن يوصلنا إلى ما نرغب فيه من أهداف لتحقيق العدالة الإجتماعية التي ثرنا لأجلها.
أكرر من جديد، على من يرغب في معرفة الحقيقة أن لا يردد ما يسمعه قبل أن يتبيّن، حتى لا يأثم ولا يَظلِم ولا يُظلَم، وأذكِّر كل هؤلاء بالحديث النبوي الشريف: "المتشبع بما ليس لديه كلابس ثوبي زور"، فليتقوا الله وليتذكروا أيضا الآية الكريمة: "إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً" صدق الله العظيم. والله المستعان.
**********
إن ما حدث لي ولوزارتي لا ينطبق عليّ فقط بل هو جزء من برنامج أكبر شمل الكثيرين من الشرفاء الذين كان يراد لهم أن يبتعدوا عن أرض المعركة لثباتهم على مبادئهم ولرفضهم لنظام الدكتاتور جملة وتفصيلا، ولوقوفهم في وجهه وصمودهم أمام مغريات الدنيا. من أمثال هؤلاء الدكتورمحمد المقريف، رئيس المؤتمر الوطني الحالي، الذي لم يسلم من هذه الحملة الآثمة التي إستغل فيها المغرضون جهل الأجيال الجديدة بتاريخه النضالي فعملوا على إعادة نشر ما أشاعه القذافي بحقه ليردده البسطاء بدون علم بأنهم بهذا يخدمون أعداء الثورة وكل من عمل على إنجاحها. كذلك طالت هذه الحملة السيد المستشار مصطفى عبدالجليل، رئيس المجلس الإنتقالي، والذي نسي الكثيرون أنه لولا وجوده لما توحدت ليبيا خلال السنة الأولى للثورة، وأذكّر القارئ هنا بذلك اليوم العصيب الذي خرج علينا فيه المدعي العسكري معلنا لنا خبر تقديم السيد عبدالجليل للمحاكمة بتهمة "تفتيت اللحمة الوطنية" رافعا يده في الهواء بعلامة النصر!!!
كعادتي، فإني، وبمجرد أن أفتح عينيّ في الصباح، أفتح معهما الآيباد لأرى مستجدات الأخبار عن ليبيا ، ففاجأني ذلك الصباح المشؤوم خبر إعلان هذا الرجل، فاتصلت مباشرة بالسيد المستشار وقد بلغ الحزن مني والجزع درجات، رد عليّ الرجل الفاضل بقوله: "لا تنزعجي يا دكتورة، اللي ما يدير شي ما يجيه شي"، رددت عليه: "بلى يا سيادة المستشار،إنه لمن العار على ليبيا أن يتجرأ أحد بالتفوه بهذا في حقك، في حين أننا نرى كم يرتعش وجلا الكثيرون حتى من ذِكر إسم سيف أو عبدالله السنوسي أو غيرهما حتى وهم خلف القضبان! فكيف تكون أنت المتهم بتفتيت اللحمة الوطنية، ومع إشارة النصر أيضا، لا حول ولا قوة إلا بالله؟! أي لحمة وطنية يتحدث عنها هذا الدَعِيّ؟ ولمن يرسل هذه الإشارة؟ إنها بالتأكيد لأعداء الثورة، فهم من تم تفتيتهم وليس أبناء الوطن الحريصين على كرامته ومصالحه!!"
**********
بالنسبة لمن أنجرّوا وراء الشائعات وأصبحوا يرددونها بدون تثبت، بل وكالوا إليّ من الشتائم بأحط الألقاب، وبعضهم اكتفوا بمطالبتي بإرجاع  "الملايين أو المليارات التي اختلستها من المال العام" على حد قولهم، بل ومنهم حتى من ظهر على شاشات التلفزيون بكلّ ثقة، وتقوّل عليّ بهتانا بما سيحاسبه الله عليه يوم الحساب، بالنسبة لهم جميعا، سواء المشككين منهم أو الواثقين بأمانتي، ولكل من يكرر أني لم أتكلم في السابق، أقول: لم أصمت أبدا، ولم أخفِ الحقائق يوما، وقد جاهرت بها مرارا وتكرارا منذ بداية مجيئي إلى الوزارة وقبلها وبعدها.
سأنشر مع هذا الجزء صورة لوثيقة حررتها في نهاية ديسمبر 2011، ثلاثة أسابيع فقط منذ تولّيِّي لوظيفة وزير الصحة في الحكومة الإنتقالية، عرضتها على كلٍ من مجلس الوزراء والمجلس الإنتقالي بتاريخي 7 و 8 يناير 2012، حذّرتُ فيها من بوادر كانت ظاهرةً لي حينها، وحذرت من عواقبها المحتملة أيضا، وطلبت من الحكومة التكاتف وإعداد خطة لتنفيذها على وجه السرعة للتصدي لمن يريدون تنفيذ ما أسميته حينها بِ "مشروع إفشال الدولة"، كما حذرت أيضا من أن تقام علينا الوصاية الدولية متى فشلنا في ذلك.. إلا أني فوجئت حينها بعدم التركيز من قبل رئيس الوزراء، وكذلك باعتراض أحد أعضاء المجلس الإنتقالي على عرضي واصفا إياه بأنه مضيعة للوقت وأمرٌ لا يهمهم على حد قوله، كما عبّر عن خيبة أمله في أن يسمع مني خطة الوزارة للنهوض بالخدمات الطبية! (أعلمته حينها أن الخطة كانت جاهزة، وأني حسب رأيي فإن هذا الموضوع يهم الجميع حتى الأطفال في الشوارع لما له من تأثير على مستقبل ليبيا بالكامل وليس على وزارتي فقط، وأني على ثقة بأن عرض هذه الوثيقة هو أكثر إلحاحا وأكثر أولوية من عرض برنامجٍ لوزارة يمكنه الإطلاع عليه في مذكّرة أُرسلها له بالبريد، وذلك لعجالة الموضوع المعروض وخطورته، لما به من تهديد للأمن القومي ولسيادة دولتنا).

إن أحياني الله، ومتى تحسّنت الهيئات القضائية في ليبيا وتخلّصنا من القضاة المأجورين والمحامين عديمي الذمة والشهود الزور(ويلزم هنا أن أعتدر للنزهاء وذوي المبادئ منهم، آمل من الله أن يقوّيهم على المفسدين بينهم ويثبّت أقدامهم)، سأقاضي كل من تقوّل عليّ وسأقاضي أيضا وسائل الإعلام التي ساهمت في نشر المعلومات المغلوطة، فهم من شاركوا في زعزعة ثقة المواطن بالحكومة، ونجحوا في تمديد حالة عدم الإستقرار التي نراها اليوم، إضافة إلى من عاونوهم في الوزارات من "الصبيان" الذين تحدثتُ عنهم في الجزء الثاني من هذه السلسلة.
أؤكد للجميع بأن الذين أعتمدتُ عليهم بعد الله في تقصي الحقائق التي سلّمتها بين أيديهم وكلّفتهم بالتحقيق فيما وردنا من وثائق، كان بأمل أن يقوموا بإحقاق الحق وإزهاق الباطل سواء بقيت أم فنيت، ولكي لا نَظلِم ولا نُظلم.
(4)
إطلعت الأسبوع الماضي على مقال صادر بمجلة أمريكية بتاريخ 12 مايو 2013، على لسان أحد موظفي الخارجية الأمريكية، جريجوري هيكس، مفاده أن الحراس الليبيين الذين تعاقدت معهم الخارجية الأمريكية لحراسة السفارة ببنغازي كانوا متواطئين مع مهاجمي السفارة، مما ترتب عليه مقتل السفير الأمريكي كريس ستيفنز وثلاثة من رفاقه.
حقيقة، إن هذا الخبر لم يفاجئني، فالطريقة التي تم بها إنخراط العاملين بكل من: وزارة الداخلية ووزارة الدفاع وقوات هيئة الأركان وحرس الحدود كانت جميعها على عجالة ولا تتوافر في غالبية المنخرطين بها المواصفات التي يمكن أن تؤمن حماية المنشآت، سواء كانت حكومية أو خاصة، إضافة إلى أنها لا يمكنها أن تؤمن حماية المواطن، وفي كثير من الأحيان لا يمكنها حتى تأمين حماية نفسها.. عليه، فإنها بحاجة إلى مراجعة من جديد، ثم إعادة بناء حسب الكفاءات.
من خلال تجربتي بالوزارة، وخلال هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ ليبيا، أرى من واجبي أن ألقي بعض الضوء على أمور أراها جوهرية، وذلك لتبيان هوية ما نطلق عليه اليوم مع كل عملية تفجير أو إختطاف أو إغتيال، إسم "مجهول" لنسجلها ضده.
إن هذا "المجهول" هو من يهدد أمننا واستقرارنا، وهو كالداء الفتاك، يزيد إستفحالا في جسم وطننا مع مرور كل يوم ما لم نتوصل إليه لنتخلص منه، وأرى من واجبي أن أتطرق إلى الأسباب التي أدت إلى تهديد الأمن في ليبيا وتدهوره بدلا من أن يستتب بعد مرور أكثر من سنتين من الإعلان عن الثورة، ومما سأسرده سيتبيّن للقارئ لماذا تضاعف التردي الأمني في ليبيا، ولماذا يطالب البعض باستقالة السيد عاشور شوايل، وزير الداخلية الحالي.
******
حين تم نقاش كيفية سحب السلاح من الشوارع خلال الحكومة الإنتقالية، قام وزير الداخلية السيد فوزي عبدالعال، بفتح باب الإنخراط بوزارة الداخلية لمن لا يرغب في تسليم سلاحه، مع الدعوة لتسليم السلاح لمن لا يرغب في الإنخراط، كانت هذه فرصة ثمينة لكثير من العاطلين عن العمل الموصوفون ب"كتائب الغنائم" وذلك لتوفير مصدر رزق  جديد، فانضم جزء من هذه الفئة، وكذلك بعض من بقايا كتائب الطاغية، وجزء من ال 16000 المسرّحين من السجون من الطاغية خلال الثورة لضرب الثوار، إضافة إلى ما تبقى من الثوار حيث أن عددا كبيرا من الثوار الحقيقيين إما قد استشهد أو مصاب أو معاق، بينما عدد كبير آخر منهم سلّم سلاحه ورجع إلى سابق عمله.. وهكذا فقد تم تقنين حمل السلاح لعدد من المجرمين الذين أعطيت لهم الرخصة بإنخراطهم تحت الوزارة بينما ظل شركاؤهم الذين رفضوا الإنضمام حاملين السلاح كمليشيات وكتائب غير خاضعة لسلطة الدولة، تقوم بالسطو وبالهجوم على المقرات التي يتظاهر رفاقهم بحمايتها بينما في الواقع هم من يقومون بتسهيل عملية إقتحامها أو إختطاف موظفيها أو ترويعهم، وهذا ما حدث بالضبط  في وزارة الصحة طوال فترة الحكومة الإنتقالية، وعلى ما يبدو هو ما حدث أيضا في السفارة الأمريكية ببنغازي.
ومن هنا يتبين لنا لماذا لا يرغب هؤلاء بوجود السيد عاشور شوايل على رأس وزارة الداخلية، حيث أنه بدأ في تفكيك قوة وزارة الداخلية وغربلتها من الشوائب الذين يسببون الشغب بدلا من منعه.
ولكن مهمته ليست بالسهلة بدون مساعدة من قوات الدفاع والأركان، إلا أنها هي الأخرى بها كم من المشاكل التي تجعلها في هذه المرحلة غير قادرة على تقديم الكثير، فالقوة التي كانت تمثل الغالبية العظمى لوزارة الدفاع في فترة الحكومة الإنتقالية هي كتيبة الصواعق في المنطقة الغربية، والصاعقة بالمنطقة الشرقية، لقد كانت غالبية كتيبة الصواعق من الزنتان وكان مقرها في الدعوة الإسلامية، وقد كان ولاؤها للوزير السيد أسامة جويلي باعتباره من الزنتان، بينما رفضت الكثير من الكتائب المسلحة الإنضمام تحت جناح وزارة الدفاع، وآثرت البقاء مستقلة بأسماء مختلفة، بحجة حماية المقرات التي كانت قد إستلمتها عقب التحرير.
قام السيد جويلي بترشيح السيد يوسف المنقوش لقيادة رئاسة الأركان، ثم حضر السيد رئيس الأركان إجتماع مجلس الوزراء الأول في بنغازي بفبراير 2012، وكانت حينها أحداث الكفرة الأولى قائمة، وفاجأنا رئيس الأركان في ذلك الإجتماع بإعلان تبعيته لرئاسة الوزراء مباشرة، وذلك بحضور رئيس الوزراء، السيد عبدالرحيم الكيب، ومباركته. تبع ذلك بعدة أسابيع ظهور قوات درع ليبيا كقوة تابعة للأركان وقد كانت مقربة جدا من السيد عبدالرحيم الكيب.
ثم في يوليو قامت رئاسة الأركان بالإعلان عن فتح باب الإنخراط في قوات الأركان، مع التنبيه بأن هذه القوة لا تحل محل الجيش النظامي، ورغم هذا فإن هيئة الأركان منقسمة اليوم إلى جزء مؤيد لبقاء رئيس الأركان بينما الجزء الآخر يطالب باستقالته.
إن المجلس الأعلى للثوار الذي شارك في محاصرة الوزارات والمطالبة بسن قانون العزل السياسي، يتبع لدرع ليبيا الذي يرأسه السيد وسام بن احميد وينوب عنه السيد أسامة كعبار، ويتبعون مباشرة إلى السيد يوسف المنقوش، بينما كتيبة حسن الجابر التي يرأسها العقيد محمد بوخفيرة والتابعة لوزارة الدفاع، فهي رغم مطالبتها بالعزل السياسي، إلا أنها تطالب أيضا بإقالة المنقوش ويدعمهم فيها المسؤول عن لجنة الدفاع في المؤتمر الوطني السيد السايح.
قام المجلس الإنتقالي بتعيين السيد الصديق المبروك الغيثي كرئيس حرس الحدود، وقد كان قبلها يشغل وظيفة وكيل مساعد لوزير الدفاع (لم تتم إستشارة الوزير في هذا التعيين)، وتم تخصيص ميزانية خاصة له وإعطائه الإستقلالية الكاملة عن كل من وزارة الدفاع ورئاسة الأركان، ووزارة الداخلية أيضا، وبهذا أصبح قوة مستقلة تتعاقد مع من تشاء بدون الرجوع إلى الحكومة أو المجلس الإنتقالي!
ومن هنا نرى كيف تم سحب البساط من تحت أقدام وزير الدفاع، وتقليص صلاحياته، بينما كان جزء لا بأس به من العاملين بوزارة الداخلية يقومون بكل ما يمكنه أن يهدد الأمن والإستقرار.. ونجد بتقرير ديوان المحاسبة للستة أشهر الأولى من 2012 ما يكفي لمعرفة الدور الإجرامي الذي تولاه عدد كبير من المنخرطين في وزارة الداخلية، ونذكر منه مايلي: تزوير كتيبات السيارات لتهريبها وبيعها بدول الجوار وتزوير الإقرارات الجمركية للسيارات المستوردة من قبل بعض الأشخاص، وكذلك تهريب العملة الليبية والعملات الأجنبية والمعدات والأجهزة الطبية، إضافة إلى تزوير أختام الدخول والخروج الخاصة بالمنافذ وقوائم الدعوات للعمال المصريين من قبل بعض الأشخاص بمقابل مادي...
وبعد أحداث مالي وإختطاف العاملين بالحقل البترولي على الحدود الجزائرية الليبية، تم الإعلان على أن المكلف برئاسة حرس الحدود، كان من قياديي الجماعة المقاتلة الليبية والتي كانت لها إرتباط بتنظيم القاعدة في أفغانستان!!!
مما تم سرده أعلاه يتبين لنا بوضوح مدى هشاشة وتفكك وعدم توافق كل من القوى المذكورة أعلاه، ومدى تأثير ذلك على إستقرار ليبيا وأمنها وسيادتها.. إضافة إلى سهولة تغلغل هذه الصفوف من قبل من يعملون في الخفاء ولا يريدون للدولة التي تحقق أهداف الثورة أن تقوم، ومن ثم يظهر لنا دور ما يدعى بالدولة العميقة في هذا الإتجاه.
******
سأتطرق في هذا الجزء عن تفاصيل حصار وزارة الصحة بالحكومة الإنتقالية في سبتمبر 2012... فالهجوم على السفارات أو حصارها ليست بالأمور الجديدة  أو سمة خاصة بالحكومة المؤقتة برئاسة السيد علي زيدان فقط، فقد حدث ذلك أيضا خلال الحكومة الإنتقالية ولكن بكثافة أقل من التي نراها اليوم... وسأتحدث عن وزارة الصحة لصلتي بها ولمعرفتي بالتفاصيل التي صاحبت تلك الأحداث، ومن خلالها يمكننا تطبيق القاعدة على بقية مفاصل الدولة.
حين أيقن عدد من المستفيدين من ملف الجرحى بأن تَولِّي وزارة الصحة للملف سيقطع عليهم مورد رزقهم، حاولوا في البداية الإلتفاف على القرار بمحاولة إقناعي بضرورة إستمرارهم في اللجان التي كانت تعني بتسفير الجرحى أو الإشراف عليهم في الخارج، ثم هاجموا مقر السيد رئيس المجلس الإنتقالي ومقر الرئاسة، وحين تقطعت سبل الإقناع معي بالخصوص، لم يُعلموا الجرحى المترددين عليهم بانتهاء مهمتهم مع انتهاء هيئة شؤون الجرحى، ولم يبرحوا مقر الهيئة، بل استمروا في إستلام ملفات الجرحى حتى وصل عددها إلى 1600 ملف، بدون إحالتها للوزارة، وذلك بنيّة مبيّتة في قلوبهم، ألا وهي إستغلال هؤلاء لتأليب الرأي العام. وبالفعل حوصرت الوزارة في سبتمبر 2012  باستخدام بعض الجرحى الذين لم يشملهم برنامج العلاج، ولقد كان ذلك بقيادة جماعات مختلقة، منها تلك التي ذكرتها أعلاه، ومنها ما كان ينتمي للجان الثورية في عهد الطاغية، وقد تعرف أحد الأطباء على واحد منهم حيث كان مشاركا في إستجوابه بمعسكر 7 أبريل ببنغازي.
قمنا بإرسال أشخاص غير معروفين ليندسوا بينهم ولنتعرف على من كان يحركهم، فلاحظوا أن من كانوا يقودون الإعتصام كانوا على إتصال دائم بآخرين يتحكمون فيهم عن بعد بالهواتف النقالةّ! ولقد تم إبلاغي في إجتماعاتنا بالخصوص بهذه المعلومات، ولكن حين طلبتها كتابيا لم أجد رجلا واحدا يملك من الشجاعة ما يكفي ليتحمل مسؤولية ما تفوه به، الأمر الذي جعل من كل هذه المعلومات كفقاعة صابون بدون فائدة أو وزن قانوني يمكن أن يُستند عليه للتحقيق والبحث عن المسؤولين والمتورطين في تلك العملية.
وأذكر هنا حادثة طريفة خلال نفس الفترة، حين أتصل بي النائب العام السيد عبدالعزيز الحصادي ليحذرني من إشاعة تم تناقلها في وسائل الإعلام وعلى شبكات التواصل الإجتماعي على نطاق واسع محتواها أنه قد أصدر أمرا باعتقالي، وحين طمأنته بأني كنت على ثقة بأن ذلك ليس صحيحا وبأني لم أصدقها (وذلك ظنا مني بأنه كان ينوي الإيضاح فقط)، رد عليّ: "أردت أن أحذرك لكي تنتبهي، فهذه إحدى الوسائل المتبعة كخطوة أولى ليتبعها إجراء آخر بأن يتقمص أشخاص صفة العاملين في النيابة العامة ويتم إختطافك، فعليك أن تنتبهي لمن حولك، وأن تكثفي الحراسات وأن لا تصدّقي أحدا يدعي أنه من طرفنا، ثم أضاف: إن هذا أقصى ما يمكنني القيام به في هذه الحالات، حيث أني لا أستطيع حتى أن أحمي نفسي! (كان قد تعرض هو أيضا إلى هجوم مسلّح في الأسابيع التي سبقت تلك المكالمة).
حين حوصرت الوزارة ، لم تتحرك السلطات، بل إمتنعت عن التدخّل حتى عندما طلبتُ ذلك، والأنكى من ذلك أن نائب رئيس الوزراء السيد مصطفى بوشاقور، بدلا من أن يكلف نفسه بالإتصال بي أو بوكلائي، آثر الإتصال بمنظِّمي الشغب والتفاوض معهم!
كذلك فإن وسائل الإعلام لم تغطي الخبر، وكأن الوزارة كانت خارج التغطية، ولكنها لم تتردد في أن تستضيف المجموعة المنظمة للشغب على شاشاتها (قنوات العاصمة، والوطنية وليبيا (الخبّاشة/التاج)) لتعطيهم المجال لكي يكيلوا ما شاؤوا من التهم الباطلة للوزارة، وقد تسبب ذلك في المزيد من الإثارة للرأي العام والمزيد من عدم الإستقرار وانعدام الثقة بين المواطن والوزارة، وبهذا فقد خدموا بامتياز مشروع إفشال الدولة.
كانت الكتيبة المكلفة بحراسة الوزارة متواطئة مع منظمي الشغب، بل وصل بهم الأمر إلى إختطاف بعض الموظفين بحجة الإستجواب بِتُهم لا وجود لها، ولكن الهدف الرئيسي كان بث الرعب بين الموظفين، وكانت تتفق مع المختطفين ثم تتدخل لإطلاق سراحهم وتظهر بموقف البطل المنقذ!

ولقد حذّرتُ من تداعيات عدم تدخل الحكومة أو المؤتمر لمنع إستمرار ما كان يحصل، وقد قمت بذلك كتابيا وبحضوري الشخصي وبالهاتف بل وحتى على شاشات التلفزيون، وأشرت إلى أنها سابقة خطيرة، حيث أنه إن لم تتخذ السلطات الإجراءات الرادعة بالخصوص، فإن المشهد سيتكرر في وزارات أخرى وفي المؤتمرالوطني أيضاً، وبالفعل، حدث ما توقعت وقد شاهدنا في الأشهر التي تلت تلك الحادثة من ألوان التمرد غير الآبه بهيبة الدولة أو قوانينها، بل وبتصاعد مضطرد في الحدة في كل مرة يتكرر الأمر فيها، إلى أن وصل الحال إلى ما نحن عليه اليوم من تمرد يكاد يكون كاملا على جميع الهيئات الحكومية بواسطة أفراد يجمعهم مكان واحد ويوحدهم هدف واحد في ظاهره، ولكن تحركهم دوافع مختلفة بنوايا مختلفة، تكون المحصلة فيها في النهاية خسارة من يتم حشدهم للمطالبة بحقوقهم المشروعة بتلك الوسائل غير المشروعة.
ما لم يكن يعلمه الغالبية العظمى من الشعب الليبي هو أن هيئة شؤون الجرحى لم تكن تتبع لوزارة الصحة، وأنه حتى عندما تم إيقافها وتسليم ملف الجرحى للوزارة في نهاية يونيو 2012، فإن ما كان قد أُنفِقَ من المليارات كان قد صُرِف من المصادر التالية:
1. وزارة النفط والمالية في المكتب التنفيذي برئاسة السيد علي الترهوني، إلى أن حُلّت وأستُبدلت بوزارتي النفط، والمالية في الحكومة الإنتقالية.
2. آلية الدفع المؤقتة، Temporary Financial Mechanism وكانت تتولى مسؤوليتها مكاتبا مستقلة، مقارها خارج ليبيا ويرأسها أشخاص من خارج وزارة المالية والصحة وهيأة شؤون الجرحى ووزارة الجرحى في المكتب التنفيذي، وكانت لها صلاحيات بتسييل المبالغ المجمّدة مباشرة لغرض علاج الجرحى وبدون حتى أن تمر على الدولة الليبية، وتم إقفال هذا البرنامج في نهاية عام 2011 ولكن بعض العقود التي تمت تحت رعايتها إستمرت تحت نفس التمويل إلى مارس 2012.
3. وزارة المالية في الحكومة الإنتقالية، برئاسة السيد حسن زقلام ووكيله السيد امراجع غيث الزوي.
ولكننا نستغرب أن يتم توجيه الإعلام بتلك الطريقة الشرسة لتحميل وزارة الصحة أخطاء هيئة الجرحى والخسارة التي حمّلتها للدولة الليبية، سواء كانت مادية أم معنوية أو في سمعتها أو في ثقة المواطن بحكومته، إضافة إلى دور سوء إدارة هذا الملف في إثارة عدم الأستقرار في الشارع، بينما لم يظهر مسؤولا واحدا من المسؤولين عن الهيئة (السيد عبدالرحيم الكيب، السيد أشرف بن إسماعيل، الدكتور علي بوالشواشي، والمهندس عثمان الريشي) لينفوا مسؤولية وزارة الصحة عما يتم إتهامها به باطلا وليعلنوا عن تحملهم لمسؤولياتهم، بل إننا حين قررنا إيضاح هذا الخلط للمواطنين بأنفسنا من خلال الإعلام، وجدنا أننا فتحنا جبهة جديدة يقودها رئيس الوزراء بنفسه ويساعده فيها نائبه د بوشاقور إضافة إلى المسؤولين عن هيئة الجرحى والعاملين معهم، يشحنها الإعلام وحاملي السلاح من الكتائب غير الشرعية.
أؤكد من جديد أنه لم يكن لوزارة الصحة أي دور في صرف أي درهم من المليارات التي صُرِفَت بحجة علاج الجرحى، ولا حتى في إرسال جرحى أو مرضى أو إختيارهم من خلال هذا البرنامج. وكذلك فإنه حتى عندما إستلمت الوزارة برنامج علاج الجرحى في نهاية يونيو، وخُصِّصت لها ميزانية لهذا الغرض، فإن تلك الميزانية لم تبرح وزارة المالية، والتي استمرت في صرفها لسداد ديون الهيأة السابقة باسم وزارة الصحة وبدون إستشارتها، ولم تستلم وزارة الصحة درهما واحدا إلى منتصف سبتمبر 2012.
تم في منتصف سبتمبر تحويل مبلغ مئة مليون دينار فقط من إجمالي مليار ومائتي مليون كان من المفترض أن تستلمها الوزارة كمخصصات لعلاج الجرحى! الأمر الذى أدى إلى تعذر توفير العلاج للجرحى عن طريق وزارة الصحة قبل هذا التاريخ، أما بقية المبلغ فقد تصرفت فيه وزارة المالية بمراسلات واردة من السفارات.
كان لرئيس الوزراء السيد عبدالرحيم الكيب دورا كبيرا في عرقلة أداء الوزارة بالنسبة لملف الجرحى، حيث أن وصفنا للطريقة التي تمت بها إدارة الملف بالفساد لم تنل رضاه، كما أنه إعتقد أنه بمجرد نقل الملف تحت مسؤولية وزارة الصحة سيعفيه ذلك من المسائلة عن مسؤوليته المباشرة عن هيئة شؤون الجرحى، وقد عبّر أكثر من مرّة عن رغبته في إقفال هذا الملف قبل موعد التسليم والإستلام بين الحكومة الإنتقالية والحكومة المؤقتة، الأمر الذي رفضناه بشدة حيث أنه بهذه الكيفية يحمّلنا ما لم نكن مسؤولين عنه، ويخرج منها المسؤولين الحقيقيين بدون أي مسؤولية! وفوجئ بإصرارنا على رغبتنا في تحمل المسؤولية فقط من تاريخ إدارتنا للملف، وكذلك إصرارنا على أن  يتم فتح باب التحقيق والتدقيق في ما سبق.
لقد كان بإمكاني رفض إستلام ملف الجرحى ولكني قبلت بذلك من باب المسؤولية ولمعرفتي بأسباب الفساد وتوقعت التعاون من الحكومة بالخصوص لقناعتي بأن نوايا المسؤولين كرئيس الوزراء ورئيس هيئة شؤون الجرحى كانت صادقة لخدمة الوطن وأهله، ولقناعتي بأنهم لم يعطوا التعليمات بالفساد ولم يستفيدا بأي شكل من الأشكال على الصعيد الشخصي من هذا الفساد.. وأود أن أؤكد هنا بأني لا أشير بأصابع الإتهام للسيد الكيب أو السيد أشرف بن إسماعيل بأنهما متورطين في أي سرقات كما يشاع، بل أني أنفي ذلك بشدة، ولا شك لدي في وطنيتهما وحسن نواياهما في خدمة ليبيا وشعبها، كما أني على ثقة بأن الإنتهازيين والمفسدين الذين وُضِعت فيهم الثقة من قبل هؤلاء لتولي لجان التسفير والإشراف على علاج الجرحى هم من خانوا أماناتهم وخلت قلوبهم من الوطنية والإنسانية فاستغلوا الثقة الممنوحة لهم لأجل خدمة مصالحهم الخاصة وربما أيضا مصالحا أخرى معادية للثورة من خلال الميزانية المخصصة لعلاج الجرحى وحولوا هذا الملف الإنساني إلى تجارة، باعوا بها الوطن وأهله.
ومع هذا فإني أحمّل رئيس الوزراء بالحكومة الإنتقالية السيد عبدالرحيم الكيب والسيد أشرف بن إسماعيل رئيس هيئة شؤون الجرحى بالمسؤولية عن الخطأ الفادح الذي اقترفاه حين أفلت الزمام من أيديهما وأيقنا أن الفساد الذي صاحب الملف أصبح كبيرا وأنهما لم يشرفا بالشكل الصحيح على متابعة سير اللجان ومخالفاتها، لم يفكرا في مخرج من هذه الورطة التي وجدا فيها أنفسهما إلا بمحاولة إلباسي شخصيا مسؤولية تلك الأخطاء، بدلا من الإعتراف بها والعمل على علاجها بالتعاون مع المشروع الذي عرضته بالخصوص، الأمر الذي تسبب في المزيد من زعزعة الإستقرار وإهدار المال العام وأجج غضب الشعب ضد الحكومة والمسؤولين كافة.
وحين فشل السيد عبدالرحيم الكيب في إقناعنا بالصمت بالخصوص، قام بعرقلة صدور أي قرار من شانه أن ينجح مشروع وزارة الصحة في علاج الأخطاء التي وقعت فيها الهيئة، فقام بتعطيل قرارات تعيين الملحقين الصحيين، والمراقبين الماليين بالسفارات، ولم يعطِ إهتماما لتقاريرنا الخاصة ببعض السفراء الذين ثبت تورطهم في الكثير من الفساد، وأخص بالذكر هنا سفير ليبيا في تركيا السيد عبدالرزاق مختار، الذي كان عضوا بالمجلس الوطني الإنتقالي قبل عمله كسفير بتركيا، وقد أعلن للجان التي أرسلناها لتركيا للتحقيق والتدقيق بأنه صديق حميم للسيد النائب الأول لرئيس الوزراء، د مصطفى بوشاقور، ورفض أي تعاون مع التحقيقات والتدقيق في الفواتير. وقد كان للسيد عبدالرزاق مختار أسهما في مستشفى كان يأوي فيه أكبر عدد من الجرحى والمرضى الذين يتم ضمهم من طرفه للعلاج في تركيا، وكانت فواتير هذا المستشفى بالذات تساوي عشرات أضعاف فواتير بعض المستشفيات الأخرى في تركيا، ورفض أن يتعاون مع الشركة التي قمنا بالتعاقد معها للتدقيق بحجة أنه قد تعاقد مع شركة أخرى، ليتبين لنا في النهاية أن تلك الشركة كانت تعمل لصالح نفس المستشفى وان تخفيضاتها لهذا المستشفى بالذات كانت أقل تخفيضات! وقد كان السيد عبدالرزاق مختار يطلب عشرات الملايين من الدولارات بدون أن يناقشه فيها أحد، وكانت تصرف له مباشرة من وزارة المالية. وهذا مثال واحد فقط من عشرات الأمثلة، ولنا في ألمانيا واليونان والأردن وتونس ومصر قصصا أخرى يشيب لها الرضيع!
لكي نزيل الإحتقان، طلبنا من وزارة المالية أن تقوم بتحويل جزء من الديون إلى السفارات لكي تسدد نسبة من الفواتير إلى أن يستكمل التدقيق فيها، ولكننا فوجئنا بأن جزءاً كبيراً من السفراء والمراقبين الماليين والمشرفين على العلاج، لا يقومون بتسديد فواتير المستشفيات بل بتسديد مصاريف الفنادق والديون السابقة فقط، وذلك من الميزانية التي تم تخصيصها لعلاج الجرحى تحت رعاية وزارة الصحة، فطالبنا وزارة الخارجية بالتعجيل في إصدار القرارات بتعيين المرشحين الجدد وذلك لكي نضع حدا للفساد المالي بالسفارات، وكذلك طلبنا أن يحال المبلغ المخصص للجرحى إلى وزارة الصحة لكي نتمكن من صرفه لعلاجهم أو لتوفيرالإمكانات محليا، وليس لسداد الديون التي تكبدتها هيأة شؤون الجرحى لعدم مسؤوليتنا عنها، ولكننا فوجئنا بالعرقلة المتعمّدة من وزارة المالية، الأمر الذي أدى إلى المزيد من التعطيل في العلاج لعدم سيطرتنا على الميزانية المخصصة، مما جعلنا غير قادرين على الوفاء بالتزاماتنا المالية، ومن ثم إمتناع الدول المضيفة عن إصدار التأشيرات.
في النهاية تم الإتفاق بيننا وبين وزير المالية ووكيل وزارة الخارجية حينها، السيد محمد عبدالعزيز، بموافقة وزير الخارجية السيد عاشور بن خيال، فاتفقنا على إصدار بعض القرارات الجريئة التي عجّلت بتسهيل الإجراءات للعلاج في الخارج وتحسين العلاقات التي ساءت مع الدول المضيفة للجرحى بسبب تراكم الديون، وقد أتطرق إلى المزيد من التفاصيل بالخصوص كالهجوم المنظم على السفارات وتهديد العاملين على تنظيم ملف الجرحى والمحققين، في كتابات أخرى.
تبين لنا في النهاية أن المحرضين على كل تلك الأحداث كانوا هم أنفسهم المشرفين السابقين بهيأة شؤون الجرحى المقالة ومعهم آخرون طامعين في جزء من المبالغ التي كانوا يسعون إلى التحكم فيها، وأنهم إضافة إلى إغلاق الوزارة لأسبوع مطالبين بعودة الملف إلى هيئة شؤون الجرحى كما كان، كانوا أيضا يحتجزون  تقارير الجرحى لديهم كما ذكرت أعلاه، لكي يضمنوا عدم البث في علاجهم، ليستمروا كوسيلة ضغط حتى يتم إرجاع العناية بالجرحى للهيئة ويبعد الملف بكامله عن وزارة الصحة، ولتعود الميزانية المخصصة للجرحى في أيديهم ليعبثوا بها كما كانوا يفعلون في السابق.
والمحزن في الأمر أنهم كانوا يستعملون نفس هؤلاء الجرحى ومبتوري الأطراف في كل الإعتصامات، سواء أمام مقر المجلس الإنتقالي أو أمام مبنى الرئاسة أو أمام وزارة الصحة، كانت التذاكر تدفع لهم للمجيء إلى طرابلس، وكانت إقامتهم في الفنادق على حساب الصحة، وذلك لتحقيق أغراضهم من أجل الكسب المادي، وتمكنوا من عرقلة أداء الوزارة وتشويه صورتها لدى المواطنين، رغم أن الحقيقة كانت عكس ما كان يُتداول، فالإجراءات التي تمت تحت رعاية وزارة الصحة كانت لضمان علاجهم في المصحات المناسبة ولحمايتهم من أن يتُاجَر بهم وكذلك لحماية أموال الدولة الليبية من السرقة.
ثم تفاقم الامر إلى الهجوم عليّ في محل إقامتي وعملي المؤقت في كورنثيا، وحيث أن ذلك الهجوم كان ثالث هجوم أتعرض له مع استمرار صمت رئيس الوزراء ووزير الداخلية، فقد وجدت نفسي حينها مضطرة إلى أن أعقد مؤتمراً صحفياً في نفس المساء الذي عدت فيه إلى مبنى الدعوة الإسلامية، دعوت فيه أكبر عدد من الإذاعات وأعلنت فيه تعرضي للهجوم وأسبابه، كما أشرت إلى أن وزارة الداخلية لم تتدخل لتوفير الحماية رغم محاولاتي المتكررة للإتصال بوزير الداخلية، السيد فوزي عبدالعال، وأن وزارة الصحة مغلقة ومحتلة من قبل مجموعة إجرامية تحركها شخصيات بالهاتف وتوفر لها الخيم والكراسي والأكل والشرب! إضافة إلى إحجام الإعلام عن تغطية الخبر، والجدير بالذكر أن مدير إدارة الإعلام بالوزارة خلال إحتلال الوزارة، السيد عزالدين التواتي، قام بالإتصال بعدد من وسائل الإعلام ولكنها حسب قوله، تراجعت عن تغطية الخبر، واصفا السلوك "وكأن هناك من يسيطر عليهم ويمنعهم من تغطيته"!!
مما أغضبني حينها هو التجاهل التام من وزير الداخلية للأزمة التي كانت تتعرض لها وزارة الصحة، ورفضه لأن يتدخل لفض الإعتصام، ورفض رئيس الأركان السيد يوسف المنقوش أن يتدخل بعد أن طلبت منه الحماية هاتفيا، بحجة أن المعتصمين كانوا غير مسلحين، بينما عرض وزير الدفاع حمايتي الشخصية فقط وامتنع عن حماية الوزارة خوفا من أن ينتج شجار بين الجيش والمعتصمين يترتب عليه إطلاق نار وإصابات بين الجرحى.. كما لا يفوتني أن أذكر أن الحرس الخاص بالوزارة كان يتصرف وكأنه غير موجود.
أبلغني في اليوم الرابع، أحد حراسي باعتراض مكالمة من اللجنة الأمنية العليا يطلب فيها المتحدث من ثلاث سيارات التوجه للتصدي للمهاجمين المتجهين لوزارة الصحة، وذلك لمجرد سماعهم عن إتصالي برئيس الأركان، الأمر الذي جعلني أحمد الله على عدم تدخله، حيث أن ذلك كان من الممكن أن ينتهي بتبادل إطلاق نار قد يؤدي إلى سقوط ضحايا من الجرحى المتواجدين في ساحة الوزارة.
وهنا اتضح لي أكثر الدور التخريبي المتعمد من بعض عناصر اللجنة الأمنية العليا، فقد كانت أحداث معسكر راف الله السحاتي ببنغازي قد مر عليها حوالي عشرة أيام فقط.. وبات واضحا أن المخطط له حينها هو تكرار نفس العملية لتسقط خلالها ضحايا من الجرحى في ساحة وزارة الصحة، ولكن إرادة الله حالت دون ذلك.
وهكذا وجد موظفي الوزارة أنفسهم مسؤولين عن حمايتها، فقرر مدراء الإدارات التفاوض مع المعتصمين وتم إقناعهم بفض الإعتصام بعد أن تم إيضاح الحقيقة لهم، بعد ستة أيام..
خلال اليوم الثاني لإغلاق الوزارة، كان لدينا إجتماع عادي لمجلس الوزراء، وكنت قد توقفت عن حضور اجتماعات مجلس الوزراء منذ بضعة أشهر لعدم جدوى التواصل مع رئيس الوزراء، الدكتور عبدالرحيم الكيب، إلا أني إتصلت بمستشاره ومدير مكتبه السيد إدريس طرينة وطلبت منه أن يعلمني بوقت بدء الإجتماع لكي اطرح موضوع إحتلال الوزارة وطرد موظفيها منها، فما كان منه بعد نصف ساعة إلا أن أرسل رسالة بالهاتف النقال لجميع الوزراء مفادها إلغاء الإجتماع بناء على طلب رئيس الوزراء، ولم يحدد أي موعد لاجتماع طارئ!!
تم بعد بضعة أيام عقد الإجتماع الإعتيادي، فحضرته لطرح المشكلة رغم أن الوزارة تم  فتحها في نفس اليوم، ولكني فوجئت بالسيد فوزي عبدالعال يدخل علينا في عجالة، ليعطيه السيد الكيب الكلمة، وإذا به يعرض موضوعا وصفه بالعاجل والملحّ، وهو توفير الحماية لأسر الموالين لنظام القذافي لكي يعودوا إلى ليبيا، وذلك لأن بعض نسائهم على حد قوله أصبحن يتاجرن بشرفهن، الأمر حقيقة آلمني أن يعرض بهذه الطريقة، فهو تطاول على شرف الليبيات.. رد عليه أحد الوزراء الحاضرين بقوله أننا لا نستطيع حتى تأمين الحماية لمن بالداخل في ظل هذه الظروف، من بعض الأعمال المعادية التي تصدر بتوجيهات ممن تبقوا من الموالين للنظام السابق، فكيف يتوقع أن يوفر لهم الحماية بالإضافة إلى أنه بذلك قد يزيد من أعدادهم وبالتالي سنفقد السيطرة بالكامل على الامن في ليبيا، وبيّن الوزير أنه لم يكن ضد عودة الليبيين، ولكنه كان يرى أن هناك أولويات أكثر إلحاحا في تلك الفترة إلى أن يعم الأمن وتتم السيطرة عليه قبل تشجيعهم على العودة.
بينما كنت استمع إلى هذا الحوار تعجبت، وطلبت الكلمة وسألت: "ألم يعلم أحد بأن الوزارة  كانت مغلقة لمدة أسبوع كامل؟ وأن عناصرا من اللجنة الأمنية العليا متواطئة مع من كانوا يعرقلون عمل الوزارة؟" وأضفت متسائلة: "كيف لا ترون بأن هذا الأمر يستدعي إجراءاً طارئاً وعاجلاً؟" وأوضحت بأن من يقودون الإعتصام يحتلون أيضا مقر إدارة الجرحى وأنهم يحولون المقر إلى ماخور للدعارة ولتعاطي الخمر والمخدرات في الليل، ويحتفظون ببيانات الجرحى ولا يسلمونها للوزارة..وأن الموظفين بالوزارة بحاجة إلى حماية لكي يواصلوا عملهم فقد تم التهجم عليهم وضربهم واختطافهم، وأني قد سبق وأن راسلت الداخلية للبت في أمرهم جميعا، ولكن لم يتم إتخاذ أي إجراء ولم يصلني أي رد! (وهذا كله موثّق بمراسلا ت رسمية بها تسليم واستلام)"..
فما كان من وزير الداخلية، السيد فوزي عبدالعال، إلا أن رد عليّ وبالحرف الواحد: "لم تصلني مراسلاتك بخصوص إغلاق الوزارة، ثم أريد أن أعرف لماذا لا تبعثي كل الجرحى للخارج؟ ولماذا كل هذا التضييق؟ ماذا لو بعثرتِ مليار أو مليارين؟ مثلها مثل ما ضاعت المليارات من قبل!!"
والأنكى من هذا أن رئيس الوزراء، السيد الكيب، أكمل حديث السيد فوزي عبدالعال بقوله: "نعم لماذا لا تصرفي المال وتبعثيهم بدون هذا التشدد؟" ثم واصل: "لنخرج من برنامج الصحة مادامت الوزيرة قد حلّت مشاكلها ولنبحث في برنامج الداخلية!!!"
وهكذا تحول طلبي لحماية الوزارة وموظفيها ليتمكنوا من تأدية عملهم، إلى مسائلتي عن أسباب حفاظي على المال العام ومنعي لإستمرار مهزلة ملف الجرحى بالشكل الذي سار به طوال ما يزيد عن العام تحت رعاية السيد رئيس الوزراء والسيد اشرف بن إسماعيل المسؤول عن ملف الجرحى، ومساعديه د علي الشواشي والمهندس عثمان الريشي!
حدث في نفس الفترة أن شبّ نزاع بين الزنتان والمشاشية، فاتفقت مع وزير الصحة القبرصي على أن يرسل لليبيا 18 جراح بمختلف التخصصات وذلك لعلاج المصابين في مستشفى الزنتان وغريان والسبيعة بطرابلس، وقد تم ذلك بالفعل خلال 48 ساعة، فقاموا بعمليات بمستشفياتنا، ولكننا حين أردنا تسديد أتعابهم، اكتشفنا أن وزارة المالية لم تحوِّل لنا درهما واحدا، واستمرت المماطلة لمدة شهرين تخللتها العديد من المكالمات الشخصية من وزير الصحة القبرصي والسفير الليبي في قبرص للمطالبة بتحويل المبلغ مقابل أتعابهم، ومنعا للمزيد من الإحراج اضطررنا إلى تحويل المبلغ من بند تطوير العلاج فتم إيقاف الحوالة من مصرف ليبيا المركزي بحجة واهية لا أذكرها الآن!
خلاصة القول: أنزعجت الدولة القبرصية من هذه التصرفات، وهددت بنشر التفاصيل في جرائدها إتهاما للدولة الليبية بأنها دولة محتالة!! بالطبع لم نكرر هذا الإجراء بعد هذه المرة خوفا من تكرار الموقف المخزي...
******
تحضرني الذاكرة أيضا مواقفا أخرى، سأذكر منها اليوم إحداها فقط لعلاقته بالموضوع، وقد أثار عجبي ودفعني إلى التفكير طويلا في معنى الوطنية والأمانة لدى الكثيرين من أبناء جلدتنا ممن شاركوا في الإطاحة بالطاغية: أذكر مرّة حين سمع أحد حراسي أني في ضائقة مالية (لم يتم دفع مرتبات الوزراء في الحكومة الإنتقالية إلى نهاية يونيو 2012)، عرض عليّ أن يعطيني مبلغا ماليا!! ولكم استغربت ذلك العرض الجرئ، فهذا الحارس لم يكن لديه مفهوم بأن من يعرض عليه المساعدة هو وزير مكلف بحراسته، وأن ما يتكرم به عليه ليس ماله بل من المال العام الذي استولى عليه خلال الثورة، وأنه لا حق له بأن يمتلكه أساسا، فما بالك بأن يعرضه على وزير ولا يخشى أن يُسأل من أين لك هذا؟
عموما، ينقلني هذا إلى حوار دار بيني وبين صديق عن مجريات الأحداث في ليبيا، فنصحني بقراءة عن "الدولة العميقة"، وقد وجدت في ذلك إجابات لأسئلة كثيرة تراودني، ولكنها فرضت أسئلة أخرى أخشى أن أجد لها أجوبة لن نرضاها، كما أني على يقين بأن المعلومات التي لدي هي كقطعة فسيفساء من لوحة أكبر، يملك الجزء المكمل لها بعض القراء، وبها ما يفيد ليجيب أسئلة لا أعلمها لدى من يملك القطعة المجاورة، ولذا، فإني أطلب من القوى الوطنية أن تدرك خطورة وجود الدولة العميقة بيننا، وأن تشكل قوة مشتركة من الوطنيين للتصدي لها ولأهدافها المدمّرة، وعلينا أن نتحد، وعلينا أيضا أن نقرن العزل السياسي بالمصالحة الوطنية، وأن نولي لعملية تطهيرالقضاء أهمية قصوى وأن نسرع في سن الدستور، حتى نصحح الأخطاء  قبل فوات الأوان، هذا إذا أردنا أن تكون لنا دولة، بدلا من اللادولة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق