Translate

الثلاثاء، 9 يونيو 2015

متلازمة الإنكار

 في العيادة الصباحيّة لهذا اليوم كان من بين مرضاي رجل سوري في بداية الخمسينات من عمره وكان مهذّباً ومتأدّباً ومتعلّماً ومثقّفاً.
أنا عرفته من إسمه لكنّني ناديت عليه وصافحته وحييته بلغة إنجليزيّة ثم دعوته للدخول للعيادة. قلت له بلغة إنجليزيّة ايضاً... هل تريدني أن أتحادث معك بالعربي أم بالإنجليزي، فأجابني بسرعة وبكل أدب بلغة إنجليزيّة سليمة وراقية: كما تريد.
قلت له إذاً فلنتحادث بالإنجليزيّة بإعتبارها لغة الشغل وإستجاب بكل تواضع. تمّت الجلسة بهدوء تام وبمهنيّة متكاملة، وفي نهاية العيادة سألني بكل تأدّب وبلغة عربيّة دافئة: ممكن أسالك من أين أنت؟. قلت له من ليبيا، فأردف قائلاً وبسرعة: انا أتمنّى بأن لا يصل حال سوريا إلى ما وصل إليه حال ليبيا !!.
هنا كدت أضحك من العبارة، وهنا أحسست بأنّنا فعلاً في العالم العربي والعالم الإسلامي نعاني من متلازمة إسمها "الإنكار".
أنا تمالكت أعصابي وحافظت على هويّتي الطبيّة وتناسيت مؤقّتاً هوّيتي الليبية، ثم رديت عليه بكل هدوء: الذي يجري في بلادنا هو كارثة بكل المعايير، والأفضل لنا جميعاً هو أن تنتهي هذه الكوارث التي أصابت بلداننا. فأجابني هو بالموافقة التامّة وودّعته بكل ترحاب كما إستقبلته في البداية.
بعد أن ذهب في حفظ الله قلت لنفسي: نعم.... نحن بالفعل نعاني من متلازمة إسمها "الإنكار"، والسبب هو ربّما أنّنا نعيش في عالم إفتراضي.
إستمعت منذ عدّة أيّام لحوار عبر قناة "الحدث" المصريّة بين عراقيين من مستويات رفيعة في عالم الصحافة فقال أحدهما للثاني عبر المذيعة المصريّة الرقيقة: كل ما أتمّناه هو ألا يصل وضعنا في العراق إلى وضع لليبيا. وهناك قلت في نفسي: سبحان الله، العراقيّون يظنّون بأن أحول العراق هي أحسن من تلك التي في ليبيا، ويخشون على أنفسهم من أن يصيبهم ما أصاب ليبيا. قلت حينها نحن بالفعل نعاني من متلازمة "الإنكار".
بعدها بعدة أيّام إستمعت إلى مقابلة من سياسي يمني كبير من أنصار التغيير عبر قناة "العربيّة" وهو يقول بكل ثقة: أتمنّى بألّا يصل حال اليمن إلى ما وصلت إليهه الأحوال في سوريا أو في ليبيا. هناك أيضاً لم أتمكّن من مغالبة التبسّم، وقلت في نفسي: نحن بالفعل نعاني من متلازمة "الإنكار".
هناك مفارقة أخرى حضرت بذاكرتي وأنا أكتب هذا الكلام.... عندما تم تعيين الدكتور حيدر العبادي رئيساً لوزراء العراق ألقى كلمة حماسيّة موجّهة إلى الغرب وأمريكا قائلاً لهم: نحن نحارب داعش بالنيابة عنكم. وقال رئيس اليمن السيد عبد ربه منصور هادي موجّهاً كلامه للغرب وأمريكا: نحن نحارب داعش نيابة عن الغرب. وقال الفريق الركن خليفة حفتر: نحن نحارب داعش نيابة عن أوربا وأمريكا !!.

لا يا سادتي المحترمين... أنتم لا تحاربون داعش نيابة عن أحد. إنّكم تحاربون داعش لحماية أنفسكم وبلدانكم ولا تحاربونها نيابة عن الغرب أو نيابة عن أمريكا. داعش نحن من أنجبها ورعاها ودعّمها وحماها ووفّر لها الحضانة الإجتماعية حتى نمت وترعرعت وبعدها ثارت علينا وحاربتنا. داعش هي من نتاج ثقافتنا وتعليمنا الديني، وهي صناعة سعوديّة وهابيّة بإمتياز وعلينا بألا نتنكّر لذلك. داعش ما هي إلى بنت القاعدة، والقاعدة ما هي إلّا بنت المدرسة الوهابيّة المتخلّفة، ونحن بدأنا الآن فقط نستفيق من سباتنا فتكشّفت أمامنا حقائق لم نكن نعرفها من قبل؛ ومع ذلك فإنّه مازال يتواجد بيننا الكثيرون ممّن ما زالوا يظنّون بأن داعش إنّما هي تعمل على إعادة تاريخ الإسلام الناصع من خلال الدعوة لإعادة "دولة الخلافة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق