Translate

الأربعاء، 18 نوفمبر 2015

تنفق عليهم بلادهم ويستفيد منهم غيرهم

 كنت في عيادتي هذا المساء محاطاً بأخصائيين ومستشارين كلّهم من الآجانب الذين يعملون في بريطانيا. فعلي يميني كانت عيادة مستشار متخصّص من نيجيريا، ومن أمامي كانت عيادة مستشار من الهند، وعلى يمينه كانت توجد عيادة مستشار من باكستان، ومن بعده عيادة مستشار آخر من أفريقيا، وفي مقابلها كانت حجرة المرّضات وهن من باكستان والهند وبنغلاديش وواحدة سمراء جميلة من أفريقيا. كان بجانب عيادتي يوجد مكتباً لإستقبال وتسجيل المرضى وكان الإدراي فيه رجلاً إنجليزيّاً بتعليم متواضع جداً ومعه ثلاثة مساعدات ممرّضات إنجليزيّات بمستويات أقل من المتواضعة في التعليم والثقافة والمهارة.
هنا وقفت قليلاً وأنا أتأمّل حالنا في العالم الثالث وقلت في نفسي: نحن في بلداننا ننفق الملايين لتعليم أبنائنا وبناتنا، ونبحث لهم عن كل ما يمكّنهم من إكمال تعليمهم، ثم إذا بنا ونقيم الأفراح والمناسبات حينما يتخرّجون من جامعاتنا، ولكن.... ما إن يتخرّج الطالب عندنا من جامعة بلاده إلّا ويبدأ في البحث عن مكان آمن يلتجئ إليه، فيواصل فيه دراساته العليا ويصبح من بعدها متخصّصاً ثم مستشاراً، ومن حينها يقفل باب العودة إلى بلاده فيتجنّس بجنسية البلد التي تحتضنه وتأويه ويصبح كأحد أبنائها البررة والمخلصين.
قلت في نفسي أيضاً وأنا أتأمّل أحوالنا في بلداننا التي هجرناها وأتينا منها إلى هنا لننعم بالرفاه والسعادة وننال كل الإحترام والتقدير الذي كثيراً ما نفتقده في بلداننا.. قلت في نفسي: نحن نهرب من جحيم بلداننا وقسوة أهلنا علينا إلى بلاد تحتضننا وتحترمنا وتقدّر علومنا فتوفّر لنا وظائف محترمة نشتغل من خلالها وننمّي مهاراتنا ثم بكل تأكيد نتعايش على ريعها ومروداتها. إنّهم هنا يحتفون بوجودنا ويقدّروا كل مجهوداتنا ويحترموا قدراتنا ويصونوا لنا كراماتنا ولا يعايروننا بأصولنا أو بألواننا أو بمعتفداتنا أو بخلفياتنا الإجتماعيّة والثقافيّة. إنّهم يتعاملون معنا كمهنيين وخبراء وكمساهمين في تحسين الخدمات في بلدانهم خاصّة عندما يحسّوا بأنّنا نخلص في أعمالنا ونصدق في أقوالنا ونبدع في افعالنا ونلتزم بالخلق الطبّي والمهني في تصرّفاتنا. إنّهم يحترموننا ونحن نقدّم لهم مهارات راقية ونفيسة هم في أمسّ الحاجة إليها وفوق كل ذلك يحصلون عليها بدون عناء وبدون إنفاق وبدون الجري وراءها... إنّهم يفتحون أبوابهم لنا ونحن من نأتي إليهم... فأي نعيم يحلمون به أكثر من هذا؟.
وفي المقابل، نجد بلداننا التي ولدنا فيها وكبرنا بين أحضانها وتعلّمنا في مدارسها وحضينا بكرمها علينا.. نجد بلداننا تقسوا علينا ولا تحترم كينونتنا ولا تقيم وزناً لمهاراتنا وقدراتنا. نجد بلداننا وهي تتركنا نخرج منها بدون أن تحاول إقناعنا بالبقاء فوق ترابها، وكأني بحكوماتها قد تحوّلت إلى مفوضيات سامية لحكومات أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية تزوّدها بكل نواقصها من الخبرات الكبيرة والعظيمة والتي لا تكلّفها ولا درهما واحداً لإعدادها أو تجهيزها؛ فتنتفع بكل ذلك وأكثر بكثير كل هذه البلاد وتحرم بهذا وغيره كل تلك البلاد التي لا تحفل إطلاقاً بقضية هجرة عقولها منها إلى غيرها. إنّنا بالفعل في عالمنا الثالث لا نحسب ولا نقدّر ولا نشعر وربما لا نحسّ..... فنحن في عالمنا الثالث لا نعرف كيف نفكّر.
المشكلة التي لا يستطيع تصوّرها الكثيرون في عالمنا الثالث هي أنّنا سوف نبقى كما نحن لو أنّنا أستمرينا نفكّر ونتصرّف بهذه العشوائية والإعتباطيّة والتجرّد من المسئوليّة وكأنّ الذي يتأذّى لا يعنينا ولا يهمّنا ولا يؤثّر فينا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق