Translate

الخميس، 5 مايو 2016

السياسة والفلسفة

 كان أحد مرضاي لهذا اليوم أستاذ في السياسة والفلسفة، وهو رجل في منتهى الأدب والأخلاق وأحسبه من الأذكياء. فقد سبق لي التحادث معه في عيادات سابقة، ومع أنّني لم أره لمدة تقارب السنتين لكنّه ظل يتذكّر بأنّني من ليبيا ويتذكّر نقاشاتي السابقة معه حينما سألني ذات يوم: كيف سيكون مستقبل ليبيا، وهل تتضايق مما يجري في ليبيا الآن بإعتبار أنّك تنتمي "أصلاً" لتلك البلد؟.
قلت له حينها: أنا يحزنني ما يجري في ليبيا الآن لكنّني لا أتضايق كثيراً منه ولا أشعر بالقلق على مستقبل ليبيا.
كان بالفعل قد إستغرب من إجابتي تلك التي لم يكن يتوقّعها برغم تعمّقه في السياسة وفهمه لمجريات الأمور على الساحة الدوليّة. قال لي حينها: أنا أستغرب بأنّك غير قلق على مستقبل ليبيا ولم أرك تجزع ممّا يجري.
قلت له : دعني أقول لك ما يكمن وراء العواطف والآحاسيس الجيّاشة. لو أنّك تريدني أن أنقل لك مشاعري العاطفية نحو ليبيا فإنّني أقولها لك وبكل قوّة بأنني وددت لو أن ليبيا اليوم (عام 2014) قد تجاوزت كل المطبّات وأخذت طريقها الحثيث نحو البناء والتغيير.... تغيير الإنسان وتغيير البنيان وتغيير طريقة التفكير والحسبان. أنا أرى الأشياء بمنظار مختلف - كما قلت له حينها - فالذي يأتي بسهولة سوف يذهب بسهولة، وأنا لا اريد أن أرى ليبيا كحديقة تخضرّ وتتفتّح وتزهر ثم بمجرّد حلول عاصفة رمليّة أو موجة حر يذبل فيها كل شئ ثم يموت. ذلك سوف يقتل الأمل معه، وذلك سوف يقتل التفاؤل، وذلك سوف يقتل المثابرة.
كان الرجل يستمع إليّ بإصغاء كبير جداً ولم يشاء حينها أن يقاطعني ممّا أشعرني بالمزيد من الثقة بما أقول... فواصلت: لا يمكن لأي عاقل بأن يتوقّع من بلد عاشت في ظل حكم عسكري متعجرف ومتكبّر ومتخلّف لآكثر من 4 عقود من الزمان أن تصبح ديموقراطية وتقدّميّة ومتحرّرة بعقول أهلها بين ليلة وضحاها. ليبيا لم يمارس شعبها الديموقراطيّة منذ تأسيسها، وليبيا برغم نسبة التعليم العالية فيها، إلا أننا هنا نتحدث عن الكم وليس الكيف في هذا الإطار. نعم... يوجد في ليبيا الكثير من حملة الشهائد، ونسبة التعليم في ليبيا تتجاوز 87%، وهي نسبة كبيرة ورائعة حتى لو أخذت في إطار المقاييس الدوليّة، لكنّنا في بلداننا في العالم الثالث كثيراً ما نهتم بالكم ولا نحفل كثيراً بالكيفيّة. يوجد في ليبيا الكثير من حملة الشهائد لكنّهم ليسوا أكثر من حملة شهائد.... التعليم في بلادنا هو تعليم كمّي ونظري وربّما يمكن القول بأنّه عشوائي أيضاً. هنا في بريطانيا تجد الطفل في عمر الرابعة (روضة) وهو يتعلّم كيف يفكّر وكيف يربط ما يتعلّمه مع واقعه الذي يعيش فيه. هنا في بريطانيا يتعلّم التلميذ في المدرسة الإبتدائيّة كيف يفكّر، كيف يستفسر، كيف يعترض، وكيف يقول رأيه بدون خوف.... نحن تعليمنا ليس هكذا. قلت له عندما كان أخي في المرحلة الإعدادية وجدته يوماً يقرأ عن "النضيدة" وهو يحفظ ما هي النضيدة وكيف هو شكلها وما هي أحجامها، وسمعته يكرّر ما هو مكتوب في كتابه ممّا دفعني لآن أسأله سؤال بسيط وبدائي: ما هي النضيدة في حياتنا اليوميّة؟. قال لي ولمفجأتي الكبرى: لا أدري.
حينما قلت له بأن النضيدة هي بطارية الراديو.... ضحك ونكّس رأسه صامتاً وكأنّه يقول لنفسه: كم أنا غبي، لو أنني عرفت بأن النضيدة هي بطارية لكنت فهمتها أحسن.
قلت له أيضاً: عندما كنت أنا في الثانوية طلب منّا القذافي أن نذهب إلى المدارس لتوعية المدرسّين والتلاميذ. دخلت أنا وزميل لي لمدرسة إبتدائيّة وجمّعوا لنا التلاميذ في ساحة المدرسة. ألقيت أنا عليهم كلمة مقتضبة عن هدفنا من المجئ إليهم وغايتنا من الإلتقاء معهم. فرح التلاميذ بتلك اللفتة ونظروا إليها على أنّها بمثابة تكريم وتقدير لهم. وطلبت أنا وزميلي من التلاميذ بأن يسألوا عن أشياء يريدون معرفة المزيد عنها، وهنا وقف أحد التلاميذ النجباء وطرح موضوعاً كان بالفعل أكبر من عمره ومن مستوى تعليم
ه. قام المدرّس حينها بنهره قائلاً له: "أسكت يا حمار" أنت شنو تفهم في الحاجات هادي. 
شعرت أنا وزميلي بالكثير من التضيّق وخيبة الأمل. قلت في نفسي: إذا كان الأستاذ هو يفكّر هكذا فكيف ننتظر منه بأن يبني أجيال ويعدّها للمستقبل. أنا تدخّلت بسرعة وطلبت من الأستاذ أن يسمح للتلميذ بأن يكمل وجهة نظره وأن يقول ما يريد. عمّ كل الجالسين أمامنا وسط من الإحساس بقيمتهم كان ظاهراً من الإرتياح الذي لاحظناه على وجوههم وتشجّع الكثير منهم للمشاركة في النقاش والحوار.
تلك هي ليبيا التي نعرفها، فكيف يتسنّى لنا أن نتوقّع من شعبها بأن يحقّق المعجزات؟. أنا لا أتضايق ممّا يجري في ليبيا الآن، فبناء الدولة ليس بلعبة أطفال. لا يمكن تحقيق التقدّم والبناء للمستقبل بدون المرور على طريق فيها الكثير من الأشواك. لابد للناس من أن تعاني حتى تفهم قيمة الحريّة. لابد من أن يشعر الطغاة بالخسارة حتى يحسّوا بدناءتهم أمام هذا الكون الكبير. لابد وأن يتقاتل المشاغبون ويقتل بعضهم البعض، فبذلك هم ربما ينتهون أو يتوبون أو يهربوا ويتركوا المكان لغيرهم. لابد لنا من أن نعبر من خلال طريق موحلة حتى نعرف كيف نحافظ على إتزاننا.
كان الرجل يستمع إليّ بكل شغف، وبالفعل حسيّت حينها بأنّه كان معجباً بكلامي خاصّة وأنّه كان يظن بأنني من بلاد العالم الثالث فلم يكن - ربما - متوقّعاً منّي الكثير من الفهم لمجريات الحياة ومتطلبات الواقع.
حينما رأيته اليوم بعد ذلك الإنقطاع كان أوّل سؤال سألني إيّاه: كيف هي ليبيا اليوم؟. قلت له مازال المشاغبون في غيّهم لأنّهم لم يتذوّقوا طعم الخسارة بعد وسوف يتذوّقونها.
قال لي ضاحكاً: أنت مازلت على عنادك و"تطرّفك".... هههه.
هنا تناقشنا في موضوع التطرّف وكيف أنّ التطرّف هو ليس خاصية إسلامية، بل هو خاصية مسيحية - كما قال صديقي الإنجليزي - وهي خاصية يهودية كما قلتها أنا له عن قصد وأيدها هو بضحكة عالية ذاكراً "اليهود الأرثوديكس" الذين لولا سيطرة الليبراليين لكانوا حوّلوا "إسرائيل" إلى جحيم لا يطاق... كما قال صديقي هذا.
في نهاية المقابلة سألني سؤالاً: ما رأيك في تزويج السياسة بالفلسفة؟. قلت له ذلك سوف يجعل السياسة أحلى طعما وأكثر نفعاً وأقل كذباً ونفاقاً.
أعجبه ذلك الكلام وأحسسه بشئ من الإفتخار بإعتبار أنّه يزاوج بين الإثنتين.... وإنتهى زمن العيادة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق