نشر في "الحوار المتمدّن" - للكاتب العراقي: الدكتورعبد الخالق حسين
لا شك أن الحركات الأصولية الإسلامية المتطرفة صارت تهددنا جميعاً
وليس هناك أحد أو مكان بمأمن من مخاطرها المدمرة كما وضح ذلك من كوارث 11 سبتمبر في
أمريكا و11 مارس في مدريد والأعمال الإرهابية المستمرة في العراق وما نال الشعبين
الأفغاني والجزائري من دمار. لذلك لم تعد هذه المشكلة تخص المتفقهين في الدين فحسب
أو المتخصصين في مجال معين من المعرفة، وإنما صارت تخصنا جميعاً لأنها باتت تهددنا
جميعاً أيضاً. وعليه فقد حان الوقت، ولو متأخراً، أن يساهم كل فرد وحسب إمكانياته
في معالجة هذه المحنة الخطيرة. ولأجل معالجة أي مرض، لا بد أن نعرف أسبابه. فيا
ترى، ما هي الأسباب الرئيسية التي أفضت إلى انتشار وباء التطرف الإسلامي إلى حد
إلقاء الشباب المسلم بأنفسهم في التهلكة وإلحاق أشد الأضرار بالآخرين وإظهار
الإسلام وكأنه يدعو إلى الإرهاب وجعلوه في موقف الدفاع ليبعد عن نفسه هذه التهمة
الشنيعة وصار عرضة للخطر ومواجهة دموية مع غير المسلمين ناهيك عن المواجهة مع
حكومات البلدان الإسلامية ذاتها.
لقد نشأت معظم هذه الحركات في بداية الأمر معتدلة، كأية حركة سياسية فكرية أخرى، وربما لعوامل محلية ودوافع دينية بحتة ولكن لظروف سياسية خاصة، داخلية وخارجية، تحولت تدريجياً إلى حركات أصولية متطرفة تبنت الإرهاب (سنأتي على هذا الموضوع في مقال مستقل). فالعوامل الداخلية تشمل الثقافة الموروثة والتعليم والأزمة المعيشية والحكومات المستبدة. أما العوامل الخارجية فلها علاقة بالحرب الباردة وسنأتي على هذه العوامل بشيء من التفصيل لاحقاً.
1-الثقافة الاجتماعية الموروثة (culture):
هناك علاقة بين التطرف وثقافة الشعوب الإسلامية المتوارثة وأنظمة الحكم المستبدة التي وفرت التربة الخصبة لنمو التطرف الديني. والمعروف أن الثقافة الاجتماعية وخاصة في البلاد العربية، هي ثقافة بدوية متوارثة من العصور الجاهلية ومتخلفة في مضمونها، عصية على التغيير والتطور، فتواجه الحداثة بالنفور وتقدس العنف الدموي وتربطه بالأصالة والرجولة والشجاعة والشرف...الخ.
2-التعاليم الإسلامية ذاتها، تعادي الأفكار غير الإسلامية وتعاملها كأفكار دخيلة معادية للإسلام، ولهذا الموقف جذور تاريخية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما تم الفتح الإسلامي لمصر، وجد قائد الحملة عمرو بن العاص مكتبة الإسكندرية الغنية بالكتب، فاستفسر من الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب عما يجب عمله بهذه المكتبة، فأمره الخليفة بحرقها. وهكذا تم حرق أغنى مكتبة في العالم آنذاك، الغنية بكنوز الفكر في ذلك الزمان. واتخذ نفس الإجراء مع الكتب الفارسية عند فتح العراق. وبقيت عادة حرق الكتب في الإسلام تقليداً متبعاً إلى يومنا هذا. والغرض من العداء المستفحل ضد الفكر غير الإسلامي هو القضاء على كل فكر ينافس الثقافة الإسلامية الأحادية الجانب.
3-معاداة الثقافات الأجنبية: المجتمع العربي المسلم عصي على التحضر والإطلاع على الثقافات الأجنبية، ويشعر بالخوف و العداء نحو الأجنبي xenophobia إذ يفيد تقرير الأمم المتحدة للتنمية العربية، أن عدد الكتب الأجنبية المترجمة إلى اللغة العربية منذ عهد الخليفة المأمون إلى الآن أقل من عدد الكتب التي تترجمها أسبانيا في سنة واحدة. وفي الوقت الذي "يمثل العالم العربي 5 % من سكان العالم لكنه ينتج 1,1 % من الكتب بينما ينتج ثلاث أضعاف الكتب الدينية التي ينتجها العالم كأنما العرب كائنات أخروية مهمومة حصراً بمستقبلها بعد الموت!. هذه الأرقام شاهد على عجز جل النخب عن تحقيق الإصلاحات السياسية والاجتماعية والدينية والتربوية المطروحة عليها منذ قرون." (العفيف الأخضر، إبلاف، 15/4/2004).
وهذا يعني أن أغلب الكتب العربية هي دينية وتراثية وليس هناك اهتمام بالحاضر والمستقبل بل جل اهتمام المسلمين منصب على الماضي وبعد الموت. وهذا ليس من قبل الأحزاب الدينية المتطرفة بل وحتى الإسلام غير المسيس أوالمسيس المعتدل. لذا فلا غرابة أن يتسابق الشباب على العمليات الانتحارية إذ يخاطب أحد زعماء الإرهاب الإسلامي الغربيين قائلاً: ( أنتم تحبون الحياة ونحن نحب الموت). وهذا ناتج عن نشر ثقافة الموت بين المسلمين.
4- التعاليم الإسلامية سيف ذو حدين، فرغم وجود آيات تدعو إلى الرفق والرحمة والعدل والإحسان والعلم وعدم فرض الدين بالقوة (لا إكراه بالدين..) ومجادلة المختلف بالتي هي أحسن «ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين»، ولكن في نفس الوقت، هناك آيات تدعو إلى العنف في سبيل نشر الإسلام مثل «أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال».( الانفال: 65).: « قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين - التوبة : 13». كما يقر الإسلام معاملة غير المسلمين بصورة مذلة ومهينة لكرامة الإنسان مثل قوله تعالى: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون- التوبة: 28». كذلك يعتبر الإسلام غير المسلمين كفاراً (الدين عند الله الإسلام فمن جاء بغير الإسلام ديناً لن يقبل منه).
نعم، نزلت هذه الآيات الكريمات وفق سياقها التاريخي، ولها علاقة بأسباب نزولها وظروفها الزمنية والمكانية، وأن لكل مقام مقال ولكل زمان رجال والأمور مقرونة بأوقاتها..الخ، إلا إن الإسلامي المسيَّس لا يعترف بكل هذا بل هو انتقائي فيما يتبناه من الدين، يأخذ منه فقط ما يخدم أغراضه السياسية مبرراً موقفه هذا قائلاً بأن تعاليم الإسلام صالحة لكل زمان ومكان، و(حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)، لأن الغرض الأساسي من الإسلام السياسي ليس نشر التعاليم الدينية والإخلاقية والفكرية، والتمييز بين الحق والباطل أو بين الصحيح والخطأ أو بين الفضيلة والرذيلة...الخ، بل هناك هدف واحد فقط وهو استلام السلطة السياسية في البلاد وما دعوتهم للإسلام إلا وسيلة لتحقيق هذا الغرض. ولهذا فالإسلامي السياسي لن يتورع عن تبني الماكيافيلية (الغاية تبرر الوسيلة) ومهما كانت الوسيلة قذرة، لذلك استخدم الإرهاب للوثوب إلى السلطة.
5-دور الحكومات في تفشي الإسلام السياسي: ساعدت الحكومات المستبدة في البلدان العربية والإسلامية على نمو الحركات الإسلامية "المعتدلة" بقصد الاستمرار على استحواذها على السلطة نتيجة لأنانيتها وقصر نظرها واتخذت من هذه الحركات أداة قامعة لمواجهة الحركات الديمقراطية العلمانية من أجل البقاء في السلطة دون منافس. واتخذت من التعليم وسيلة لإفساد عقول النشء الجديد في نشر التعصب الديني والعداء للآخر وبذلك هيأت ذهنية الناس منذ نعومة أظفارهم على تقبل التطرف الديني وكراهية غير المسلم. كذلك فسحت هذه الحكومات المجال للإسلاميين على نشر أفكارهم والعمل بحرية فكانت لهم المساجد ودور العبادة، مع الحرية الكاملة لهم في مخاطبة الجماهير ونشر أفكارهم وحتى توسيع تنظيماتهم السياسية إضافة إلى استخدام التكنولوجية الحديثة في وسائل الإعلام المختلفة لصالحهم في نشر خطاباتهم على الأشرطة الصوتية والفيديو وغيرها. بينما كان نصيب المثقفين العلمانيين والديمقراطيين، السجن والتعذيب والتنكيل والإعدام والنفي واتهامهم بالكفر والإلحاد. وهكذا بقيت المجتمعات العربية والإسلامية محرومة من الثقافة التنويرية ولا تتلقى إلا لوناً واحداً من الثقافة وهي الثقافة الدينية السلفية ضد الحداثة والديمقراطية، والتحريضية ضد الأجانب وشحن الناس بالتعصب للفكر الأحادي الجانب نشر الكراهية ضد غير المسلمين حتى ولو كانوا من مواطني تلك البلدان الإسلامية.
أنقلب السحر على الساحر: وبالتالي أنقلب السحر على الساحر، كما يقولون. ولتوضيح ذلك يشبِّه الكاتب السعودي التنويري تركي الحمد عملية بعث الحياة في السلفية من قبل هذه الحكومات بقصة فرانكشتاين فيقول: ".. ظهرت قصة فرانكشتاين لأول مرة، كانت تحكي قصة طالب سويسري مهتم بالأمور السحرية، قام بصنع مخلوق من أجزاء من الأجداث المختلفة بُعثت فيه الروح، ولم يلبث هذا المخلوق أن قام بقتل الطالب الذي جمعه من الجثث المختلفة." هذا ما حصل بالضبط للحكومات الديكتاتورية التي عملت على إحياء السلفية والإعتماد عليها في محاربة الحركات الديمقراطية، فانقلبت عليها هذه الحركات وأوصلتنا إلى ما نحن عليه الآن.
أفضل مثال يمكن أن نضربه بهذا الخصوص هو ما قام به الراحل أنور السادات في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات. فقد زج السادات بالمثقفين والسياسيين التقدميين الديمقراطيين في السجون بتهمة محاربة الإسلام والعمالة للأجنبي. وفسح المجال أمام الأصوليين السلفيين لهذا الغرض ومنح نفسه لقب "الرئيس المؤمن"، تماما كما فعل صدام حسين فيما بعد على أثر هزيمته المنكرة في حرب الخليج الثانية، فأعلن "الحملة الإيمانية" ملقباً نفسه بالرئيس المؤمن. فكانت النتيجة في مصر أن أصيبت الحركات الديمقراطية بالشلل ونشطت الحركات الأصولية وبالتالي أدت إلى قتل السادات نفسه. وما زال الشعب المصري يدفع الثمن ويعاني من الأعمال الإرهابية من قبل المتطرفين الأصوليين الذين راحوا يقتلون المثقفين والسياح الأجانب كما هو معروف.
كذلك في الجزائر تم اضطهاد القوى التقدمية وفسح المجال أمام الإسلاميين الذين بدأوا معتدلين ثم تحولوا إلى قتلة متطرفين وحصل ما حصل. وعمل الشيء ذاته الدكتاتور السوداني الأسبق جعفر النميري المعروف بانتهازيته المفضوحة وهو الذي سهل نقل الألوف من اليهود الفلاشا الأثيوبيين إلى إسرائيل مقابل رشوة تقدر بمئات الملايين من الدولارات وقد أمعن في محاربة المثقفين الديمقراطيين السودانيين وأعلن أسلمة الحكم ومهد الطريق إلى ظهور حركة حسن الترابي والبشير فيما بعد. وقد أختزل هؤلاء الإسلام بمجرد تبني سياسة بتر أطراف المتهمين بالسرقة ومنع الخمور وفرض الحجاب على المرأة وعزلها عن النشاط الإجتماعي ومحاربة الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان واعتبارها من الأفكار المستوردة والغريبة عن مجتمعاتنا الإسلامية المحافظة..الخ
6- فشل الحكومات العربية في حل الأزمات المتفاقمة: السبب الآخر في ظهور التطرف الإسلامي هو فشل الحكومات العربية في حل الأزمات المتفاقمة المختلفة، الإقتصادية والإجتماعية والسياسية الخانقة والتي اشتدت وطأتها بسبب الإنفجار السكاني وتفشي البطالة وفساد الحكم وانتشار الرشوة بين الموظفين الحكوميين وتبذير ثروات البلاد في التسلح وعسكرة البلاد. فكيف تستطيع هذه الحكومات حل مشاكل شعب يتضاعف تعداده كل عشرين عاماً وحوالي سبعين بالمائة منه دون الثلاثين من العمر؟.
7- فشل الآيديولوجيات الإشتراكية والقومية: عامل آخر أدى إلى لجوء الشباب إلى السلفية المتطرفة وهو فشل الآيديولوجيات الإشتراكية والقومية التي اعتمدت الإفراط في الشمولية والمركزية ومعاداة الديمقراطية في حكم البلاد، بهزيمة منكرة. وقد وفرت هزائم الأنظمة العربية الفاشلة الظروف المناسبة لتحول الأحزاب الإسلامية المعتدلة إلى حركات متطرفة تسعى لاستلام السلطة بالعنف و بعد أن اشتد ساعدهم بسبب دعم ذات الحكومات لها، مدعين أنهم يملكون الحل لكل هذه الأزمات المستفحلة وأن السبب الأساسي لهذه الأزمات هو ابتعاد عن الدين والسلف الصالح ورفعوا شعارهم (الحل في الإسلام). علماً بأنهم لا يملكون أي برنامج واضح لحل المشاكل المستعصية الراهنة كما وضح ذلك في السودان وإيران وأفغانستان.
8- أما العامل الخارجي للتطرف الإسلامي فيتمثل في الحرب الباردة بين المعسكرين، الغربي الرأسمالي بقيادة أمريكا والشرقي الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي. ففي تلك المرحلة كانت الشيوعية تمثل الخطر الأكبر على مصالح الغرب. لذلك ساعدت الدول الغربية وخاصة أمريكا على دعم الأحزاب السلفية لمواجهة "الأفكار الهدامة" الشيوعية في العالم الإسلامي وخاصة البلدان العربية. لا شك أن أمريكا ارتكبت أخطاءً فضيعة بحق شعوب العالم الثالث خلال هذا العهد. وبعد الغزو السوفيتي لأفغانستان صرفت أمريكا عشرات المليارات من الدولارات على تشكيل حركات المجاهدين الإسلاميين ومنها حركة القاعدة بقيادة بن لادن وطالبان الأفغان ضد الجيش السوفيتي. ولما انتهت الحرب الباردة لصالح الغرب وسقط الإتحاد السوفيتي، كما سقط الحكم الشيوعي في أفغانستان، تخلت أمريكا عن تلك الحركات الإرهابية لاستنفاد دورها. ومن ثم غرقت منظمات "المجاهدين" في حروب طاحنة ضد بعضها البعض وتحولت من منظمات إسلامية "معتدلة" غايتها تحرير أفغانستان إلى منظمات إرهابية بلا عمل تبحث عن عدو. ولذلك لما عاد عرب الأفغان إلى بلادهم راحوا يمارسون مهنتهم ضد حكوماتهم وشعوبهم في نشر الإرهاب. وقد تجاوز هذا الإرهاب إلى ضرب المصالح الأمريكية التي بلغت الذروة يوم 11 سبتمبر 2001، الحدث الكبير الذي أدى إلى تبني أمريكا سياسة جديدة لمحاربة الإرهاب في العالم.
لذلك فهذه المنظمات الإرهابية هي من نتاج الحكومات العربية المستبدة وإفرازات مرحلة الحرب الباردة لا بد أن تستمر الحرب عليها إلى أن يتم القضاء عليها وتجفيف جميع مستنقعات الإرهاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق