Translate

الأحد، 15 يونيو 2014

بنغازي: الأمن المفقود

بقلم: صفاء صالح، عن "المصري اليوم":

ما إن تبدأ خيوط الشمس فى التلاشى ليحل محلها الظلام حتى تسرع السيارات لتختفى من شوارع وطرقات بنغازى، أصبحت المدينة المتمردة عبر العصور تخشى غول الإرهاب، الذى يقطع الرؤوس ويخيط الأفواه والعيون، حكايات عن تمثيل بالجثث وسيدات حملن لقب الأرامل فى سن الخامسة عشرة، كتائب تتبع القاعدة وقوات لجيش نظامى يجتمعون سويا مع شعب تعوّد الثورة منذ عقود، فقد ثار على الاحتلال الإيطالى. من بنغازى أذيع بيان الاستقلال عام 1959، وبها حدث الانقلاب على الملك السنوسى، وهى أول من ثار على القذافى يوم 15 فبراير، حيث انطلقت منها الشرارة الأولى للثورة، ومنها أطلق بيان التحرير فى 2011. على بوابات المدينة المتمردة رفعت كتائب أنصار الشريعة علمها الأسود فوق الدبابات والمدرعات، تدور بين الأهالى شهادات لأعضاء سابقين فى الكتائب تفيد بأن من يقطع منهم 5 رؤوس للكفرة (من الجيش والشرطة ومن يفتون بتكفيره من الصحفيين أو السياسيين، أو من غيّر المِلّة) ينصب أميرا على رأس جماعة، يجرون مسابقات للفتوى على الطرقات، المدينة التى أعدم بها عمر المختار بمحاكمة صورية، وحَكم القذافى على طلبة جامعتها عام 1977 بالإعدام، لأنهم تظاهروا ضده، يُعدم بها الآن كل يوم ضحية جديدة دون محاكمة.
كان يوم جمعة الكرامة هو يوم عطلة ماهر مسعود الربيعى (28 سنة)، الجندى بمديرية أمن بنغازى، ولكن زملاءه بالعمل اتصلوا به ليتسلم نوبة حراسة بالمديرية بعد تصاعد المعارك بين قوات اللواء حفتر وكتائب أنصار الشريعة و17 فبراير، الموالية للمؤتمر الوطنى فى بنغازى، همَّ ماهر بالتوجه لتسلم دوريته بعد صلاة الجمعة، وفى الطريق من قريته «النواقية» إلى بنغازى، اعترضه كمين لأنصار الشريعة عند بوابة الهوارى، إحدى البوابات الغربية التى تسيطر عليها عناصر القاعدة فى بنغازى، وما إن رأى عناصر الكمين الملثمون زى مسعود العسكرى، حتى صوبوا إلى رأسه رصاصتان كانتا كفيلتين بقتله فى الحال. يقول السنوسى مسعود الربيعى (29 سنة)، مدرس جغرافيا، وشقيق ماهر «إنهم لم يقتلوا أخى فقط لكونه يرتدى زيًا عسكريًا، ولكنهم بعد يومين قتلوا شقيق زوجته محمد العبدلى، 20 سنة، سائق، هو وصديقه لمجرد أنه يرتدى (بنطلون مارينز موضة)، وهو ابن وحيد كان ينفق على أمه وأخواته البنات، من بينهم زوجة أخى وأخ صغير يبلغ من العمر 7 سنوات. وبعد أن قتلوهما أحرقوا جثتيهما، ولم يمكن التعرف عليهما لدفنهما، ونجرى الآن إجراءات التعرف على جثتيهما من خلال اختبار الحمض النووى ( DNA) بعد أخذ عينة من شقيق محمد الأصغر لنحدد من منهما محمد ومن صديقه، وإلى الآن لم ندفن بقايا الجثامين».
تنتشر عناصر جماعة أنصار الشريعة فى ضواحى وقرى حدود بنغازى، ولها تواجد قوى فى بعض هذه القرى. وعن سر انتماء بعض الشباب بضواحى وقرى بنغازى لهذه الكتائب المسلحة يقول أشرف إبراهيم (32 سنة)، مدرس لغة إنجليزية، بقرية جروثة ببنغازى: «هذه المجموعات ظهرت أيام الثورة فى الجبهة مع الثوار، كان معظمهم بالسجون منذ أن عادوا من الشيشان وأفغانستان وخرجوا وقت فتح السجون وقت الثورة، وعندما انضموا للثورة شكلوا جماعات وانتمى إليهم الشباب متصورين أنهم ثوار، بعد ذلك بدأوا فى استغلال المساجد لكسب الناس فى خطب الجمعة وعمل الندوات والتبرعات للفقراء، وكتائب (17 فبراير) هم ثوار إخوان موالون لأنصار الشريعة ويمدهم المؤتمر الوطنى بالأموال». كل يوم يستيقظ أهالى منطقة جروثة على جريمة بشعة لجثة محترقة أو مجموعة جثث مذبوحة، كما حدث للمصريين الستة المسيحيين الذين أتى بهم عناصر الشريعة من مسكنهم بحى السلمانى ببنغازى إلى قطعة أرض فضاء فى مدخل قرية جروثة، ليسمع أهل القرية طلقات النار وتكبيرات القتلة بعد منتصف الليل، ولكن أحدًا منهم لم يستطع الخروج من منزله، بعد ساعات قليلة استيقظ أهل القرية على صراخ راعى غنم اكتشف جثثهم فى السادسة فجرًا.
تقف عناصر أنصار الشريعة على مداخل بنغازى ظانين أنهم موكول إليهم دور القدر، يمنحون الحياة لمن شاؤوا وينزعونها عمّن يشاؤون، يجرون مسابقات لعابرى البوابات ليلاً من غير ذوى الزى العسكرى، ومن ينجح فله مكافأة. يقول «منير.ع.أ»: «كنت فى طريقى وأصدقائى من بنغازى إلى قريتنا، وأوقفنا أنصار الشريعة، قالوا لنا سوف نسألكم سؤالا، وإذا أجبتم فلكم مكافأة، ثم سألونى: أين الله؟ فأجبتهم أن الله فى السماء، مشيرا بسبابتى إلى أعلى، لأنى أعلم أنهم يكفرون من يقول إن الله فى كل مكان، فهم يؤمنون بأن الله على عرشه فى السماء، فأعطونى مكافأة سى دى خاصة بهم، عندما قمت بتشغيلها وجدت عليها خطبا لقادتهم تكفر على زيدان وحفتر وكل أعدائهم وتعدهم بالجحيم».
قبل أسبوعين قُتل الصحفى مفتاح بوزيد، رئيس تحرير جريدة «برنيق»، أمام منزله ببنغازى، بثلاث رصاصات استقرت فى رأسه، بعد أن انتقد فى اليوم السابق، فى لقاء تليفزيونى فى إحدى الفضائيات، تصرفات أعضاء المؤتمر والإخوان فى طرابلس، وكان بوزيد دائما ما يردد «أنه يعلم أنه سيُقتل بسبب آرائه، ولكن التهديدات لن تثنيه عن قول الحق».
كانت «المصرى اليوم» تجوب شوارع بنغازى يوم مقتل بوزيد، يومها شهدت المدينة حزنًا شديدًا على الرجل الذى يعرفه الجميع، فيقول سالم، أحد العاملين بشركة طيران فى وسط بنغازى «لقد قتلوا الرجل ذا الأخلاق العالية المتواضع، لأنه قال كلمة حق، لقد كنت أعرفه جيدًا، فقد كان يوزع علينا صحيفته بنفسه، وكان دائما بشوشًا حسن الخلق، الله ينتقم ممن قتلوه». مساء نفس اليوم، طافت مظاهرة شوارع بنغازى، منددة بما حدث جمعت طوائف عدة من شعب بنغازى غير الفئة المثقفة، منددين رافعين أصواتهم: «نبو (نريد) شرطة، نبو جيش، ما نبو خفافيش». يقف فى المظاهرة مرتديًا زيا غير زيّه، يندد بصوت عال يحمل خليطا من الألم والخوف معًا، لم يأت من أجل بوزيد فقط، بل من أجل رفاقه الأربعة الذين قُتلوا خلال شهرين، ولم يستطع أن يعترض حتى لا يعلم أحدهم أنه شرطى، وقف جبريل صالح جبريل (29 سنة)، عسكرى فى شرطة مدينة البيضاء، يقول: «جئت معترضًا على الاغتيالات التى طالت الإعلاميين بعد الشرطة والجيش، حتى صوت الشارع يبو (يبغون) يخرسونه، التكفيريون بيختاروا فى الشباب، نبو تقوم الدولة بعد سقوط شرعية المؤتمر فى 7 فبراير، ولا نريد أن تُفرض علينا الحكومة، أصدقائى الأربعة قتلوا ، والحكومة تقول ما نعرف من قتلهم، مع إن كل الشعب عارف!».
ويقول مسعود الربيعى (27 سنة)، مهندس مدنى، أحد شباب ثورة 17 فبراير من بنغازى: «الوضع كل يوم من سيئ إلى أسوأ، والخطف والقتل كل يوم يزيد، والخروقات الأمنية أكبر من وقت الثورة، السجناء والعصابات فى الشوارع، أدركت الجماعات المتشددة أن بنغازى هى مفتاح حكم ليبيا، فتوغلوا فيها، والمؤتمر لم يقم إلا بتغطيتهم وخداع الشارع، بنغازى هى ليبيا الصغيرة فيها كل أطياف الشعب». تضم بنغازى عددًا كبيرًا من الناشطين والمثقفين، فهى المدينة ذات نسبة التعليم الأعلى، ومنهم «نادية جعودة»، رئيس منظمة التراث والتعددية الثقافية، تقول جعودة: «هناك حرب على أصحاب القلم وعلى حرية التعبير التى قامت من أجلها ثورة 17 فبراير، وقد أصبحت بنغازى مؤخرا ساحة مفتوحة، الكل يحاول تصفية حساباته داخلها، فبنغازى مدينة الثورة خرجت منها كل القنصليات، وأغلقت المطارات الدولية بها، وأصبحت مدينة معزولة، ولكنها مازالت تصرخ بصوت عال».
يردد بعض المثقفين فى بنغازى أن ما يحدث لها اليوم هو عقاب على ثوريتها المتقدة دائمًا، وعن ذلك تقول الدكتورة آمال بعيو، الأستاذ فى كلية العلوم بجامعة بنغازى، والمرشحة حاليا لمجلس النواب القادم: «لقد جاء وقت معاقبة بنغازى، التى أمدت الثورة بالسلاح والغذاء، وكانت مقرًا للمجلس الانتقالى، فهى من طبيعتها العصيان، ولم تهادن القذافى يوما، نحن فى بنغازى نطالب بدولة مؤسسات تقف للقوى الظلامية، فإن كان لدى الحكومة الحالية أدلة تكشف القتلة فلماذا تسكت عنهم؟ وإن لم تكن لديها أدلة فمن يعاقب من يقتلنا والدولة صامتة، ليبيا لن تكون دولة أبدا إذا استمر ما يحدث فى بنغازى». وتتهم بعيو قوى خارجية، إلى جنب عجز الحكومة، بالمسؤولية عما يجرى فى مدينتها، قائلة: «إن العالم الذى ورطنا يتفرج علينا اليوم، فقد ورطتنا دول الغرب مع جماعات وفدت من جميع أنحاء العالم». وعن الغاية من عزل بنغازى بهذه الطريقة تقول بعيو: «إذا سقطت بنغازى تصبح ليبيا عصى لينة يمكن التحكم بها وتقسيمها، فهناك من يريد التقسيم، فحتى ممثلى المجتمع المدنى الذين لا يملكون إلا الكلام يغتالون على مرأى ومسمع من الناس، فالطرف الآخر لا يريد للعالم أن يسمع صوتك، باتت ليبيا معزولة بلا مطارات ولا سفارات، ليس لدينا سوى الإنترنت والتليفون اللذين يتم قطعهما علينا طوال الوقت. كنا نتمنى لليبيا أن تصبح دولة، ولذا انتخبنا المؤتمر، ولكنه خيب آمالنا».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق