Translate

الاثنين، 7 يوليو 2014

كانت سلوى على موعد مع القدر

علي عمر التكبالي

     
لأول مرة في حياتي أرى خنجرا يخشى عيون الضحية... لأول مرة في حياتي أرى الرمش النائم فوق البؤبؤ الحالم يستصغر الشفرة اللامعة، ويزدري القبضة المائعة.. وحتى حين فشل السكين في إخماد النفس البريئة، وانطلقت الرصاصة الخانعة من اليد الخائنة لم يهتز الرمش، ولم تنحن الجبهة.
     لم تكن سلوى إمرأة ككل النساء.. لم تكن تهوى الدردشة فوق بئر رطبة كما تفعل البدوية، ولم تكن تجيد تزرير عقود التين كما تفعل الفلاحة، ولا إرتداء أطواق الياسمين كما بنات المدينة.. وحتى حينما قالوا لها جاءك زوج من غياهب القدر، لم تفرح كما تفرح النساء، ولم تزغرد لمستقبل باهر كما تفعل النساء.   كان موعدها الأول مع حبيب تهجأت إسمه سرا لصديقتها الصدوق.  وحين لم تفهم تلك الصديقة ما معنى أن تحب فتاة في عمر الزهور وطنا في حجم الدنيا، ضحكت سلوى، ورمت بشعرها الطويل خلف كتفيها، ومشت بثقة نحو الخارطة..  كتبت إسمها داخل قلب كبير إسمه ليبيا..  قالت في دلال: "ليلى العامرية أحبت قيس، وسلوى البنغازية أحبت وطن، فما العجب!"

     كانت البنات في المدرسة يركضن خلف بائع الحلوى، ويشربن من سقاية السلوى بينما كانت سلوى تجلس في الركن تمعن النظر في كتاب زاخر، أوفي مجلة غلافها باهر.  وحين أكملت ما أكملت من تعليم فارقت رفيقات الدرب وسارت على خط مستقيم في طرفيه كفتان، واجتهدت كي لا تزيغ رجلها فتقع في مستنقع الضحالة والعطن..  أكملت سلوى القانون لا لكي تغرس شهادتها بين نهديها كما تفعل نساء هذا الزمن، بل لكي تشعلها كي تضئ للغافلين طريق الله.

     منذ أن ولدت سلوى كانت على موعد.. موعدها الأول مع فجر بنغازي الدفيء في حضن أم رؤوم علمتها على صوت الآذان أن الله أكبر من كل العالمين، وأنه لا يختفي في جبة أو في لحية، أو في جبهة وليّ تزينها بقعة.  قالت أمها: "يا بنيتي خلف هذه الأكمة تكمن الحقيقة.. ومهما الطريق قصر، فهو محفوف بالخطر. فإن سرت فيه فاحملي قلبك فوق كفك، واذلقيه فوق الأكمة كيف ينزف شعاعا.. وإن رأيت المسير في ذاك الطريق المتعرج فانثري شعرك فوق صفير الريح كي تغني لك "الزمزامات" أهازيج النفاق.

     سلوى الفتية لم تتردد.. سارت في الطريق القصير الطويل بعد أن شقت صدرها وحملت القلب الثمين في يدها اليسرى، واليراع الممشوق في اليد اليمنى، وتركت للسانها حرية الكلام في أرض موات يحيط بها الصدى من كل جانب.

      الضباب يخيم على الآفاق، والفكر العنجهي يساقط سناجا فوق الطرقات، وسلوى تسير... الموت يكمن في الزوايا، ويصنع من أجساد الضحايا مطايا، وسلوى تسير..  السواد يرنو من عين الشيطان، وينهمر نارا فوق المكان، وسلوى تسير.  من يوقف خطوة سلوى؟. من يقول لسلوى حاذري يا سلوى؟.  لم يتجرأ أحد بأن ينبس ببنت شفة لأن سلوى كانت على موعد مع ليلة الزفة.. العين زائغة، والأذن خرساء، والقدم تمضي في طريق كان قد إختاره القدر، والقدر لا يعترف برغبة البشر.

     لم تكمل سلوى  موعدها الثاني مع فجر بنغازي الدفيء، لإنها  حين إختارت طريقها كانت تمتطي صهوة الزمن كي تقتاد الفجر من وراء بحر الظلمات حيث يكمن أفعوان جبان بسبعة رؤوس فارغة.. تلاطمت الأمواج، وغابت السفينة المبحرة إلى شعاع الشمس النابع من بحيرة النور، وانتثرت سلوى شذرات ضوء فوق الآكام.

طرابلس 28/ 6/ 2014 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق