Translate

الاثنين، 4 مايو 2015

عدل السماء هو ليس نفسه عدل الأرض

من خلال عملي كطبيب أرى الكثير من البشر وهم يعانون من أمراض وعاهات وأحسّ بمقدار معاناتهم هم وذويهم. مقدار ونوعيّة المعاناة تختلف من شخص لآخر، ولا أرى في ذلك الكثير ممّا يثير الإنتباه بقدر كونه يعتبر جزءاً من الحياة تعوّدنا على رؤيته وقبول العيش به من خلاله.
الذي يستوقفني بالفعل هو أنّني أرى بعض الناس يعانون كثيراً مقارنة بغيرهم، وبدل أن أرى الحياة تتيسّر أمامهم في مواضع أخرى أراها تتضيّق حولهم، وأحتسبها في واقع الأمر "تظلمهم".
أريد أن أطرح هنا مثالين من واقع عملي لمريضين من أسرتين مختلفتين ليكونا مثالاً لما وددت التحدّث عنه هذا اليوم، مع يقيني بأنّه توجد على هذه الأرض أمثلة كثيرة أكثر قسوة وأشد معاناة.
المثال الآوّل يتمثّل في مريض يبلغ عمره الآن 36 سنة مع أنّني أعرفه منذ ما يزيد عن عشرة سنوات، حيث يحضره أبوه وأمّه للمراجعة الدوريّة حسب البرنامج المعد. الشاب يعاني من تخلّف تكويني منذ الولادة تعتبر حالته وسطيّة من حيث الشدّة، مع أنّه جسمانيّاً مازال يعتمد على نفسه ولا يحتاج إلى أي دعم عضلي من أحد. الشاب يوجد عنده تأخّراً عقليّاً ويعاني من الصرع، وذلك هو سبب تردّده على عيادتي.
أم الشاب وأبوه هما قمّة في الهدوء والتأدّب والعقلانيّة، ويمتازان بحنان أبوي كبير وعميق لإبنهما، وأحسّ أنا في كل مرّة أراهما فيها بمقدار تأسّيهما من رؤية إبنهما الوحيد كذلك. الوالدان يهتمّان كثيراً بإنهما، وقد ترى بكل وضوح كم الإهتمام والعناية على مظهر وشكل إبنهما، فهو نظيف وأنيق وتظهر علامات الإهتمام عليه من والديه واضحة بمجرّد أن تلمحه. 
مع مرور الوقت، كبر الأبوان وبدأت علامات التشيّخ المبكّرة تظهر واضحة عليهما، وكذلك فإنّ إبنهما أصبح مؤخّراً يعاني من مضاعفات الأدوية ومرور سنوات العمر حتى بدأ يحتاج إلى عناية أكثر ودعم عضلي بذلك القدر الذي أصبح يثقل كاهل والديه. بدأت ألاحظ كم المعاناة على تعبيرات وجهيهما وكذلك على بقيّة حياتهما، حتى بدأت أشفق عليهما. 
كان الأب أكثر تأثّراً بالمعاناة النفسيّة والعضويّة نظراً لأنّه أكبر سنّاً من زوجته، وفي أحد الأيّام جلس على الكرسي ووجد صعوبة كبيرة في الوقوف مما حدا بزوجته كي تهرع لمساعدته.
أحسست حينها بأنّ الحياة تظلم بعض الناس، وبأنّه بالفعل توجد في هذه الدنيا قسوة فنصحتهما بأن يبحثا عن مركز رعاية إجتماعيّة يهتم بإبنهما فعسى ذلك أن يعطيهما بعض من الوقت لنفسيهما وقد يخفّف من كم معاناتهما. تردّدا في البدء قائلين: هذا هو إبننا الوحيد ولا نستطيع فراقه. حاولت معهما بعض الشئ وأخيراً إقتنعا بنصيحتي. وبالفعل وجدا مكاناً لائقاً يعتني بإبنهما، ولا حظت ذلك من خلال المساعدين الذين بدأوا يصاحبون "مارك" عندما يأتي إلى العيادة مع أن والديه أصرّا على المجئ معه ومرافقة المعتنين به. 
إستمر الزمن في دورانه ومرّت الأيّام إلى أن عرفت بأن الأب أصيب بشلل نصفي نتيجة لجلطة كبيرة في أحد أوعية الدماغ حتى أنّه أصبح هو بنفسه معاقاً. زاد ذلك من حزن زوجته ومعاناتها العضوية والنفسيّة حتى أنّها بدأت تظهر عليها علامات الإلتهاب المفصلي نتيجة لكبر السن وكثرة الضغوط النفسيّة. بدأ الأبوان ينزويان رويداً رويداً عن الأنظار حتى لاحظت أخيراً بأن "مارك" أصبح يأتي إلى العياة مع المعتنين به فقط بدون أبويه. عندها قلت في نفسي: كم هي هذه الدنيا قاسية جدّاً على البعض ومريحة جدّاً للبعض الآخر.

المثال الثاني يتمثّل في شابّة جميلة في آواخر العشرينات من عمرها وهي تعاني من إرتعاشات جسمية متنوّعة بما يؤثّر في توازنها الجسماني ومشاعرها الإنسانيّة. الشابّة تأتي إلى العيادة مع أمّها التي هي نفسها مازالت في مقتبل العمر وتتمتّع بصحّة جسمانية رائعة. الأم يبدو واضحاً عليها بأنّها ذكيّة ومحترمة ومتأدّبة، ومن أسرة راقية. تأتي الأم مع إبنتها، وكنت ألحظ في هذه الحالة أيضاً كم الحب الأموي والإهتمام بالإبنة بما كان ينعكس على أناقتها ونظافتها وتأدّبها ورقيّ تعاملاتها. الشابّة لا تعاني من تخلّف عقلي ولا تعاني من عيوب خلقيّة أكثر من تلك الإرتعاشات الجسميّة وفقدان التوازن نتيجة لعطب في الموظّب (المخيخ) لم يعرف سببه، والأغلب بأنّه ناجم عن خلل جيني يسمّى الترنّح النخاعي المخيخي Spino-cerebellar Ataxia أو ما يرمز له بالأحرف SCA. 
لم ألاحظ تشنّج الأم أو كثرة الحديث عن حظّها العاثر، بل إنّني كنت أراها دائماً هادئة الأعصاب، مبتسمة وقنوعة وراضية بقدرها في الدنيا؛ وبالفعل كانت تلك الأسرة تعطيني المثل الرائع للقبول بقضاء الله وقدره وهم من المسيحيّين. لم يسبق لي الإلتقاء بالأب خلال معايداتي ل"أندريا"، وتبيّنت أخيراً بأن الأب ترك الأسرة وذهب إلى حاله عندما رزقا بإبن يعاني من نفس الحالة التي في أغلبها تخضع للصفة الوراثيّة السائدة في علم الجينات Autosomal Dominant وتوجد من هذ الحالة أنواعاً أخرى أقل شيوعاً بكثير من الأولى وهي تخضع للصفة المتنحّية Autosomal Recessive، كما يوجد نوع ثالث يعتبر نادر الحدوث وهذا النوع يخضع للصفة الجنسيّة(ذكر أو أنثى) أو ما يعرف ب X-Linked في الإنتقال بين الأقرباء. 
الأم تركت لتعاني وحدها فتقوم برعاية ولدها وإبنتها مع أن كل منهما يعتبر من المعتمدين على نفسه من الناحية العضويّة، لكن كم العناء النفسي كان كبيراً جدّاً على الأم التي رزقت بطفلين معاقين ثم فقدت زوجها بعد أن ضحّت بزواجها نتيجة لذلك. خيّرها زوجها بين أن تضع طفليها الوحيدين في دور الرعاية أو أنّه يتركها لغيرها، فإختارت طفليها على زوجها وفضّلت المعاناة على حياة زوجيّة مرفّهة ومريحة.
هذين المثالين عبرا بخيالي هذا الصباح عندما قرّرت المشي - بدل إستخدام السيّارة - إلى الدكّان القريب لإشتراء بعض النواقص اللازمة للإفطار. قرّرت المشي لأن الجوء كان رائعاً وأنا من محبّي المشي في الهواء العليل.... حيث أنّني أعشق الطبيعة وأنسجم مع جمال الكون، وكثيراً ما يفتح صفاء الكون الأفق أمامي واسعاً ويجعل الحياة تبدو لي واسعة ورحبة. كما أن الكون يظهر أمامي واسعاً ورحباً وتبدو لي حدوده بعيدة جداً فيسرح في بهاء الإتّساع خيالي وأجد نفسي أذوب متعمّقاّ في هذا الكون الشاسع والملئ بالأسرار... وأحياناً تنقلني لحظات التخيّل والتأمّل إلى ما بعد حدود ذلك فأجدني أذهب بعيداً جدّاً متدبّراً لما يحيط بنا عن قرب، وما يتحكّم في حياتنا عن بعد.
بدأت بالفعل أفكّر في معنى الحياة ولماذا هي هكذا. هناك من البشر من ينعم الله عليهم بحياة رغدة وسعيدة ومرفّهة يجدون فيها كل ما يريدون، وهناك أنواعاً من البشر يعانون في كل شئ في حياتهم ولا يحسّون بقيمة هذه الحياة أو بقيمة أنفسهم فيها، حيث تجدهم مشغولين بما يعانون وقد يكونوا من الباكين في صمت بدون أن نلحظ ذلك عليهم فلا نحسّ بعمق معاناتهم. 
قلت في نفسي: لماذا هو الله يقسو هكذا على بعض البشر ويرفق بآخرين، ولماذا هي هكذا الحياة ظالمة للبعض ومرفقة حنونة بالبعض الآخر؟. 
قلت في نفسي: أين هو العدل الإلهي وكيف يسمح الله للبعض بالمعاناة الشديدة والقاسية بينما يتنعّم أخرون من نفس خلقه من البشر ببحبوحة وسعادة لا مثيل لها؟. قلت في نفسي: إن الله خالق هذا الكون، وهو يعلم كل صغيرة وكبيرة فيه، وهو يرى مالا نراه نحن البشر، فكيف به يظلم البعض وينصف البعض الآخر؟.
عندها إهتديت إلى قناعة مفادها أن العدل الإلهي هو ليس عدلنا نحن البشر، وبأن مقاييس الرب هي ليست مقاييسنا نحن البشر. إهتديت إلى أن الله يرى الكون كلّه ونحن لا نرى من الدنيا غير أجزاء صغيرة منها تتمثّل في بعض يسير من كوكب الأرض الذي نعيش عليه. قلت لنفسي: إنّ حسابات الله تختلف عن حساباتنا، ومعايير الخالق ليست هي كمعايير البشر. حينها قفز بي خيالي إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد فكّرت في معادلة رسمتها لي تصوّراتي مضمونها يمكن تلخيصه في أنّه: لو أن الرب أعطى لكل منّا بمثل ما أعطاه للآخر فإنّ الحياة سوف تفقد طعمها عندنا جميعاً. ولو أن الله عدل بين الناس من حيث الرخاء والعناء، فإنّنا سوف لن نحس بمعاناة الغير، وسوف لن نتعلّم الرحمة والشفقة والحنوّ، وسوف عندها لن نتعلّم كيف نبتكر ونخترع ونفكّر في أسلم الطرق وأجودها لمساعدة المحتاجين. حينها مرّت من أمام ناظريّ متضادّات الجوع والشبع، والمرض والشفاء، والعطش والإرتواء، والسلم والحرب، واللطف والعنف والحب والكراهيّة والغناء والفقر والعلم والجهل والذكاء والغباء.... أيقنت على إثرها بأن الله أوجد لنا هذه المتناقضات لنتعلّم كيف نفهم معنى وقيمة الحياة التي نعيشها، ونتعلّم كيف نحمي أنفسنا من أخطارها، وكيف نهتم بغيرنا ونعمل على تخفيف معاناته، وكيف نصبح بالفعل "بشراً" كما أرادنا الله بأن نكون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق