Translate

السبت، 16 أبريل 2016

ما يقوله العلم: الإنسان مسيّر أم مخيّر؟

هذا المقال أهدي لي من طرف الكاتبة الليبيّة "نعيمة كريد" لصاحبه Dr. Mohammad Aglan وأنشره لكم هنا للمزيد من التأمّل والتدبّر والبحث والتفكير... أتمنّى لكم قراءة ممتعة.
هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟ هذا السؤال أجابت عنه الفلسفات بأشكال مختلفة. ولكن ماذا يقول العلم؟.... هل يمكن أن يقدّم لنا إجابة شافية؟.

 آينشتاين: أفعالنا مقدّرة مسبقاً
عندما وضع آينشتاين نظريته النسبية، قال إن المستقبل موجود وكائن بالفعل، لا كما نتصوره معدوماً في انتظار أن يحصل. وترتّب على هذا الكشف العلمي الثابت بالبرهان والتجربة أن كل ما سوف يكون هو محدد سلفاً ولا سبيل لتغييره، وأن إحساسنا بامتلاك زمام الإرادة ليس سوى خدعة تمارسها عقولنا لتوحي لنا أننا نستطيع أن ننتقي من بين عدد من الخيارات بحرية كاملة.
وكان لهذا التصور توابعه الأخلاقية الخطيرة، فإن كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن نحاكم شخصاً ما على جرائمه ما دام مقدّراً له - من قبل أن يولد - أن يكون هو ذلك الشخص وأن يقتل ضحاياه؟. وقد طُرح هذا السؤال على آينشتاين نفسه فأجاب أنه يؤمن تماماً بأن هذا الرجل محكوم عليه مسبقاً بأن يكون مجرماً وبعدم إمكانه تفادي هذا المصير المشؤوم لكنه مع ذلك يجب أن يوضع في السجن، لأن هذه هي المصلحة التي يتحتم فعلها لصلاح المجتمع.

مواضيع أخرى:
علميّاً، السفر عبر الزمن ممكن لمواجهة ضغوط الحياة والتمتّع بصحّة جيّدة. الحل بسيط: ساعد الآخرين في مقابلة مع الكاتب الألماني-الأمريكي "جورج فيريك" نشر الأخير نصّها في كتابه "ومضات العظمة" Glimpses of The Great، عام 1930، قال آينشتاين: "كل شيء مقدّر بواسطة قوى ليست تحت سيطرتنا. أقدار كل الكائنات محتومة من الحشرات إلى النجوم والإنسان وحتى النباتات أو الغبار الكوني. إننا جميعاً نتراقص على لحن غامض قادم من بعيد يلعبه عازف لا نراه". ميكانيكا الكم والحرية لم يكن آينشتاين وحده مَن ناصر تلك النظرة إلى العالم. فقد شاركه فيها أساطين الفيزياء في زمانه، إلى أن ظهرت نظرية ميكانيكا الكم Quantum mechanics التي أربكت حسابات كل من قال بالحتمية.
ففي العام 1927 نشر عالم الفيزياء الألماني "فيرنر هايزنبرغ" ورقة بحثيّة غيّرت وجه العلم تماماً وتحدّت نسبية آينشتاين الوليدة. كان بحث هايزنبرغ يقول ببساطة إنه لا يمكننا قياس أي قيمة لجسم (مثل الكتلة أو السرعة) دون أن تتغير بقية القيم التي تعرّف هذا الجسم. فلو أردنا مثلاً قياس كتلة جسيم وشحنته، فإننا نستطيع أن نحدد إحدى هاتين القيمتين بدقة لكن الثانية سوف تتغير بمجرد قياسنا للأولى. وقد بنى هايزنبرغ فلسفته في ما بعد على تلك الحقيقة العلمية وقال إنه لا يمكننا أن نقول أن هناك قيماً ثابتة بشكل مطلق لأي جسم، وتالياً فلا يمكن عملياً وصف أي جسم بدقة مطلقة، لأن عملية القياس والرصد ذاتها تغير من طبيعة الأجسام المرصودة ومواصفاتها.
شكّل هذا الكشف مفاجأة كبيرة للمجتمع العلمي الذي كان قد إطمأنّ إلى النسبية وبهرته قدرتها على التنبؤ بظواهر طبيعية لم تكن قد رُصدت من قبل وتفسيرها. ولكن فيزياء الكم راحت تصف العالم بشكل مختلف تماماً. ففي عالم الفيزياء الكمية ليس هناك "حقيقة" دون "محقق" وليس هناك واقع دون راصد، فنحن نشارك عملياً في "صناعة" العالم بشكل أو آخر. تقرر فيزياء الكم أن كل الجزيئات المادّية الأصغر من الذرة في الكون توجد في كل أوضاعها وهيئاتها الممكنة بشكل متزامن ما دام رصدها لم يتم.
وللتبسيط نطرح المثال التالي: إذا فرضنا أن في باطن الأرض بداخل أحد المناجم، توجد كتلة كبيرة من مادة مشعة تُطلِق بانتظام جسيمات متناهية الصغر في بيئتها المحيطة. فإننا لو أردنا أن نرصد حركة جسيم محدد من تلك الجسيمات ونرى إن كان قد انطلق وفارق الكتلة المشعة أم لا، فسوف نجده بداهة في إحدى هاتين الحالتين المحتملتين: إما أنه انطلق أو لا. ولكن، بحسب فيزياء الكم، كان الجسيم، قبل أن نرصده نحن، في الحالتين معاً. أي أنه كان قد فارق الكتلة المشعّة ولم يفارقها في اللحظة نفسها، وحين نقوم نحن برصده فقط "تحدث" حالة من الإثنتين وتتحول إلى واقع.
ماذا يعني قول آينشتاين إن "الرب لا يلعب النرد"؟ هل يمكن للفيزياء أن تجيبنا على السؤال الأبدي: هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟. سمّيت الحالة الأولية للجسيم قبل رصده بـ"التموضع الفائق" Superposition وترتّب على هذا أن كل الاحتمالات قائمة وكامنة في الكون، ولا يمكن أن يكون المستقبل محدّداً لأنه يحمل - علمياً وفلسفياً - كل الإحتمالات بداخله ما دام لم يتحوّل بعد إلى واقع.
بدا وكأن حتميّة آينشتاين ليست إلا "ثرثرة" لا علاقة لها بحقائق الكون الأكثر تعقيداً ممّا نتخيّل. آينشتاين: "الرب لا يلعب النرد" يبدو الأمر عصيّاً على التصديق حتى بالنسبة لكبار العلماء في ذلك الوقت. وقد كره آينشتاين النظرية برمّتها وحاول نقضها بجملته الشهيرة "إن الرب لا يلعب النرد". إلا أن كل ما تلا ورقة هايزنبرغ من أبحاث حتى اليوم تؤيّد ما قاله وتنتصر له على الرغم من غرابته الشديدة، وعجز عقولنا عن تصوره وإستحضاره، لكن التجربة قطعت به ولم يعد هناك مجال للتشكيك في النظرية إلى أن يَجدّ عليها جديد.
عن تلك الأفكار تولّدت تصوّرات جديدة عن الإنسان بإعتباره في النهاية مكوّناً من جسيمات شبيهة بتلك وبالتالي فإنّه يحمل بداخله كل الإحتمالات المتاحة له... وربما يمكنه أن يختار من بينها. يقول عالم الفيزياء النظرية الأمريكي "ميتشيو كاكو" إنّ الفيزياء حسمت الإجابة عن التساؤل في شأن إرادة الإنسان الحرّة، وإننا نمتلك بالفعل إرادتنا الحرة ونستطيع أن نختار لأن المستقبل موجود وكائن بالفعل، لكنّه يحتوي في الوقت نفسه على كل الإحتمالات الممكنة معاً في إنتظارنا نحن أن نتحرك ونرجّح إحداها على الأخرى.
لكن الحقيقة أن النقاش لم ينته، فما زال الكثير من العلماء، بخاصة أولئك المهتمّين بعلم الخلايا العصبية neuroscience، يرون أن سحر ميكانيكا الكم لا يمكن أن يعمل في نظام مثل العقل البشري، وأن وجود إحتمالات متعدّدة للمستقبل لا يعني إمتلاكنا الإرادة الحرّة. ويظل الأمر، حتى هذه اللحظة، خاضعاً لميل القارىء وإقتناعه الشخصي. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق