Translate

الأربعاء، 20 ديسمبر 2017

الحياة قبل العبادة

عندما تكون الحياة في خطر يلتغي الدين مؤقّتاً من أجل إنقاذ الحياة. هذا يبرهن على أن الحياة هي قبل الدين وقبل الإعتقاد.. وقبل التديّن. من أجل أن تفهم الدين عليك بأن تفهم نواميس الحياة. عالم الحياة هو من يقدر على فهم الدين، أمّا "عالم" الدين فهو قطعاً لا يستطيع فهم الحياة.... لأنّ الحياة هي أوسع من مداركه.
كثر في هذه الأيّام أولئك المتشدّقون بإسم الدين وكأنّهم أصبحوا أوصياء عليه. فمن المؤسف بأنّك تجد من لا يستطيع أن يكتب جملة صحيحة وإذا بك تجده ينصحك بالعبادة والصلاة، وإذا لم تتلفّظ بكلمة "إن شاء الله" أمامه فإنّه يذكّرك بها وكأنّه سوف يحاسب على سيئاتك يوم القيامة بدلاً عنك. المشكلة أنّك تقول له: هل أكلت، فيقول لك "إن شاء الله" لأنّه لا يعرف بأن إن شاء الله هي مستقبليّة، وأكلت هي من فعل الماضي.
هؤلاء أشباه المتعلّمين كثروا بيننا هذه الأيّام وحفظوا بعض العبارات وسمعوا بعض الآحاديث من هنا أو هناك وهم في الغالب لا يحفظونها، وإذا بهم يقولون لك: سمعت الشيخ يقول، وسمعت "العالم" يقول ويتحوّل في لحظة إلى واعظ لك مع أنّه يعرف بأنّك أكثر منه علماً وأكبر منه سنّاً، لكنّه لا يحفل بذلك لأنّه كان قد نصّب من نفسه واعظاً ومرشداً ووكيلاً لله على الأرض.
في ظهر هذا اليوم ذهبت إلى جامع المستشفى لأداء صلاة الجمعة، ووصلت متأخّراً قليلاً (بصراحة: أنّني تعمّدت ذلك) حتى لا أحضر خطبة ركيكة ومملّة ومنفصمة عن الواقع ظللت أسمعها طيلة العشرة سنوات الماضية بدون تغيير وبدون تجديد.
المهم أنّني وصلت متأخّراً قليلاً فوجدت شخصين في الصف الأخير إصطففت بجانبهما وأكملنا الفرض مع الإمام وهو شيخ زمني لا يريد أن يطوّر من نفسه إطلاقاً. إنّه من بين أولئك الذين تتركهم هنا وتعود بعد 3 أيّام فتجدهم حيث هم. هذا الشيخ يمتاز بشئ لا يحسد عليه وهو "التطويل" في الركوع والسجود حتى يحسسك بالملل. أنا أعرف منذ كنت صغيراً بأنّ زمن الركوع والسجود يجب بأن يكون مناسبا... أي ليس طويلاً وليس قصيراّ. كنت أعرف منذ الصغر كذلك بأنّ القياس ربّما يكون في أنّك تقول: سبحان ربّي العظيم في الركوع وسبحان ربّي الأعلى في السجود "ثلاثة" مرّات لكل واحدة. مع هذا الشيخ تجاوز تكرار "سبحان ربّي العظيم" و"سبحان ربي الأعلى" 13 مرّة في كل من الركوع والسجود وهو مازال مستمرّاً !. بالتأكيد هناك حكمة من عدم تطويل زمن الركوع أو السجود قد لا يحفل بها هذا الشيخ أو أنّه ربّما لا يدري عليها، وهي أنّك ترفق بكبار السن و أولئك الذين يعانون من مرض ما كضيق في التنفّس أو ربو شعبي أو توجد لديهم إختلالات في العمود الفقري فلا تطيل عليهم رحمة بهم.
المهم... أنّني وقفت على يسار إثنين من المصلّين في الطابور الخلفي وهو مجهّز ليسع 12 مصلياً حسب السجّادات المرسومة على البساط. جاء شخص ثالث يجري كي لا يفوته شيئاً ووقف إلى يساري. إقترب منّي حتى رطمني بكتفه، ثمّ "فحّج" رجليه حتى عطب رجلي وهو يوجد على يساره 8 آماكن شاغرة !. بكل تأكيد فإنّه كثيراً ما يستمع إلى الشيخ وهو يقول عند إقامة الصلاة: ساووا صفوفكم، "تراصّوا"، ولا تتركوا فراغات بينكم.... ومن هنا تجد ثلاثة مصلّين يصلّون على سجادتين في حين أن هناك الكثير من السجّادات الشاغرة بجانبهم.
المهم أنّه بعد نهاية الصلاة وتسليم الإمام، قام الشخص الذي على يميني بإيماء رأسه إلى اليمين بشكل لولبي وعمل نفس الشئ تجاه اليسار وهو يقول في كل مرّة السلام عليكم ورحمة الله. عندما رأيته يومئ رأسه بشكل غريب بالفعل، قلت في نفسي: يوجد بيننا من يفعل أشياء ولا يفكّر فيها على الإطلاق... هكذا يكرّرها دائماً ولا يتوقف لحظة ليقول لنفسه "ولماذا أنا أفعل ذلك أو تلك؟"... غياب التدبّر والتفكير فيما نفعل.. أو ما يمكن تسميته ب"الآليّة" في التصرّفات والأفعال بدون سؤال النفس: ولماذا أنا أفعلها كذلك؟.
هذا بكل تأكيد ليس هو لب الموضوع الذي من عنوانه يمكن معرفة بأّنّه لا يعني هذا.
عندما خرجت من المسجد إلتقيت ببعض الليبيّين كالعادة وتبادلت الآحاديث معهم وتسامرنا وضحكنا مع أنّ ليبيا ومشاكلها كانت حاضرة في كل حديث. إتجهت إلى العيادة، وأنا في طريقي إلى هناك حاصرتني فكرة فتوقّفت عندها وتدبّرتها. الفكرة كانت عبارة عن سؤال بسيط: أيّهما أولى في الترتيب (أهم) الحياة أم العبادة؟. الإجابة البديهيّة بكل تأكيد سوف تكون "العبادة" أولى، لكنّني لم أرها كذلك.
الحياة تأتي في الترتيب قبل العبادة في قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ، وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب}.. إذا فرغت من العمل فقف وأبدأ صلاتك... أي أن العمل (حياة) يأتي قبل الصلاة (عبادة).
قلت في نفسي، وقد نختلف في تفسير هذه الآية كما هو الحال عندنا نحن المسلمين... نحن نجيد وربّما نتمتّع بالإختلاف في تفسير كلام الله حتى نجد ما نتخاصم من أجله ونستميت في الدفاع عليه، لننتهي إلى ما يشبه "القسورة" v "الكرامة" !.
قلت إذا نحن إختلفنا في التفسير فسوف يرفع كل منّا سلاحه في وجه أخيه إلى أن يقتله، ودرءاً لذلك بحثت عن أمثلة أخرى تبرهن على أنّ الحياة تأتي قبل العبادة.. إذاً فهي أهم من العبادة.
الذين يرخّص لهم بالإفطار في رمضان هم أهل الأعذار الشرعية وهم:
أولاً: المسافر سفرًا يجوز فيه قصر الصلاة بأن يبلغ ثمانين كيلومتراً فأكثر.
ثانيًا: المريض الذي تلحقه مشقة إذا صام أو يسبب تضاعف المرض عليه أو تأخر الشفاء فهذا يرخص له في الإفطار(تبطل العبادة من أجل الحياة).
ثالثًا: الحائض والنفساء لا يجوز لهما الصيام في حال الحيض والنفاس ويحرم عليهما الصيام وكذلك الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو خافتا على ولديهما أبيح لهما الإفطار. وكذلك المريض مرضًا مزمنًا لا يُرجى له شفاء وكذلك الكبير الهرم. كل هؤلاء من أهل الأعذار الذين رخّص لهم الشارع بالإفطار ومنهم من يؤمر بالقضاء كالمسافر والمريض مرضًا يرجى شفاؤه والحائض والنفساء والحامل والمرضع كل هؤلاء يجب عليهم القضاء لقوله تعالى{فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
أما من لم يستطع القضاء ويعجز عنه عجزًا مستمرًا كالكبير الهرم والمريض المزمن فهذان ليس عليهما قضاء وإنما يطعمان عن كل يوم مسكينًا لقوله تعالى{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، وكذلك قوله تعالى: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.
من هذه الأمثلة نرى بأن الفرض يؤجّل أو يسقط إذا كان هناك أمراً حياتيّاً يستدعي ذلك.
ومثال آخر لقضيّة حياتيّة يحلّ فيها الحرام (يبطل التديّن) من أجل الحياة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
من هنا نرى أيضاً بأنّ الحياة قد تكون أهم من التديّن، وبأنّ الله ينصر الحياة على التديّن إذا كان الإختيار بين أحديهما ملزماً.
ومن هذا المنطلق فإن الذين يرون بأن الحياة الدنيا ما هي إلاّ متاع الغرور، وأولئك الذين يفجّرون أنفسهم طامعين في جنّة الخلد وحور العين على أساس أن الحياة زائلة إنّما هم واهمون ومغرّراً بهم، وهم في واقع الأمر يعيشون في عالم إفتراضي لا يمت للحياة أو الواقع أو الدين بصلة.... فهل نتدبّر ونفكّر قبل أن نقدم على فعل ما نفعل؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق