عن صحيفة "سبتمبر" للكاتب اليمني: أحمد الحبيشي
في نهاية القرن العشرين والألفية الثانية دخل العالم العربي والاسلامي مأزقا حاداً جاء كمحصلة لتراكم مريع من الإخفاقات
والتراجعات التي تتالت منذ قرون طويلة، تمتد إلى بدايات ظهور السلفية المتشددة التي مارست مختلف أشكال العداء للعقل، وحاربت الفلسفة والعلوم الطبيعية والترجمة، واضطهدت رواد العلم المسلمين من الفلاسفة وعلماء الكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والمنطق، وأحرقت كتبهم الثمينة، وحصرت صفة أهل العلم والعلماء على المشتغلين فقط في مجال الفقه والخطابة الدينية الشفاهية وحفظ وتلقين النصوص الفقهية، الأمر الذي مهّد لتراجع مساهمة العرب والمسلمين في إنتاج وتطوير وتحديث منجزات العلوم والآداب والفلسفة والفنون، وصولاً إلى غروب شمس الحضارة العربية والإسلامية.. وزاد من خطورة هذا المأزق أنّه تزامن مع انتقال الحضارة الحديثة في نهاية الألفية الثانية وبدايات الألفية الثالثة، من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.. ومن العالمية إلى العولمة.
مما له دلالة أن الآلة بوصفها أبرز معطيات الحداثة الإنتاجية في حقبة الثورة الصناعية، انتجت وقائع وحقائق جديدة، ووحدت العالم في شبكة علاقات ذات طابع عمودي.. بيد أن دخول الرقم كعنصر حاسم في الإنتاج الإليكتروني جعل الواقع والحقيقة مفتوحين أمام تحولات بلا حدود.. بمعنى إمكانية إكساب العالم الواقعي بنية أفقية اندماجية لامتناهية، بعكس عالم الثورة الصناعية العمودي والمجرد.
كانت التناقضات في عالم الحداثة الصناعية قائمة ً بين بنى محورية ذات حدود صارمة، وبين فواعل ومفاعيل ترتبط فيما بينها بعلاقات عمودية.. اما عالم ما بعد الحداثة فهو يتسم بنزوعه نحو التحول الى بنية سوقية محورية ومندمجة، تصبح التناقضات معها قائمة ً بين فاعِلَيْن متميِّزَيْن بطريقتي تفكير متناقضتين.. الأول يفكر بعقلية ديناميكية ويعمل على تطوير أنماط التفكير والعيش من خلال الاندماج ضمن سوق كونية تتوفر فيها فرص غير مسبوقة لتبادل المعطيات من أفكار وسلع وخدمات ومعلومات، فيما يفكر الآخر بعقلية انعزالية تقليدية، ويصر على العمل وفق قوالب مدرسية نقلية، وأفكار ماضوية متكلسة وجاهزة، ما يؤدي الى إهدار الفرص المتاحة للتقدم، والاستمرار في إعادة إنتاج العجز، وتهميش الذات بالذات نفسها!!
صحيح ان ثمة فجوة حضارية كبيرة تفصل بين العالم العربي والإسلامي وبين الغرب، وهي فجوة تجسد تخلف البلدان العربية والاسلامية عن اللحاق بعصر الحداثة الأولى التي دشنتها الثورة الصناعية والتقنيات العلمية في القرن السابع عشر الميلادي وبلغت ذروتها في القرون الثلاثة الأخيرة، وكان من نتائجها تقسيم العالم الى مركز مهيمن وأطراف تابعة ومعزولة، وما ترتب على ذلك من عالمية ذات طابع عمودي.لكن عصر الثورة الإليكترونية، بما هو عصر الانفجار المعرفي وما بعد الحداثة يتسم بالنزوع الى تغيير خارطة العلاقة بين مفاعيل النظام الكوني.. فالمادة لم تعد عضوية وآلية بل اليكترونية ومعلوماتية.. وبالمقابل لم يعد الفكر يبحث عن الحقيقة من خلال المعطيات الموروثة والقائمة فعلا، بل من خلال المعطيات التي يهتم العقل بالتفكير في إبداعها وإنتاجها عبر تقنيات المعلومات وشبكات الاتصال، وما يترتب على ذلك من تغيير العلاقة بين الوعي المعرفي والواقع الملموس.
من المفارقات التي تميز عصر العولمة وما بعد الحداثة عما قبله، انه ينطوي على حوافز وفرص تفتح إمكانات هائلة أمام كل من يرغب في الاندماج به للتأثير في مفاعيله الداخلية وتغيير قواعد حركتها.. بمعنى ان العولمة فضاء مفتوح للمجايلة والمشاركة والاشتغال على معطياتها ووقائعها من خلال قدرات معرفية وأنساق ذهنية، لا قدرات مادية عضوية كما هو حال الحداثة الصناعية.
يُخطئ من يعتقد بأن العولمة الرأسمالية ظاهرة جديدة يسهل مناهضتها ومقاومتها بالاحتجاجات والمظاهرات والمقالات والدعاء بالمساجد، فثمة ميول قديمة للعولمة ارتبطت بتطور نمط الانتاج الرأسمالي وميوله نحو العالمية التي عززتها وضاعفت مفاعيلها إنجازات العلوم الحديثة، ونتائج الكشوفات الجغرافية ومخرجات الثورة الصناعية الأولى في منتصف الألفية الثانية من التاريخ الميلادي، لتتحول بعد ذلك إلى نظام عالمي للإنتاج والتسويق والاستهلاك نشأت على تربته حروب وخطوط السيطرة على الأسواق ومصادر الخامات وممرات الملاحة الدولية في مختلف القارات!!.
لا ريب في أن الاستعمار وحروب التوسع الاستعمارية اسهما في إيقاظ الوعي الوطني وظهور الحركات القومية التي تتوّجت بولادة الدولة الأمة، على أنقاض الدول الامبراطورية الجامعة والهويات الدينية والعصبية المانعة، وما ترتب على ذلك من إشكاليات ثقافية نجمت عن ظهور نزعات مصاحبة للدولة القومية مثل الشوفينية والتعصب القومي، ووصلت ذروتها في النازية والصهيونية والأبارثيد. بيد أن المظهر الأبرز للعولمة في الحقبة الجديدة والراهنة من عصرنا، بقدر ما اكتسب طابعاً ثورياً نتيجة لثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي اختصرت المسافات، وتجاوزت الحدود السياسية والقومية والثقافية، أسهم في تقويض الأسس المادية للشوفينية وضيق الأفق الوطني والتعصّب القومي، وصولاً الى إفساح الطريق أمام توسيع فرص وإمكانات تلاقح الثقافات، وتحفيز الشعوب والأمم المختلفة لبناء نظام عالمي للقيم الانسانية.
ولعل تلك الميول تنطوي على أبعاد ايجابية من شأنها تحفيز مختلف الثقافات على الإبداع في مجال القيم الإنسانية المشتركة، وما يترتب عن ذلك من تعظيم فرص مطالبة الشعوب والمجتمعات المختلفة بالديمقراطية والعدالة والمساواة ومكافحة جميع أشكال التمييز بين البشر رجالاً ونساءً، وفي المقدمة منها التمييز ضد المرأة.. ولا أبالغ حين أقول إن الاستجابة لتحديات العولمة في طورها الجديد لا تتحقق بواسطة طرح سؤال الخصوصية والهوية من منطلق دفاعي انعزالي، لأن النزوع إلى الدفاع أو المقاومة الدفاعية قد ينطوي على رفض مموّه للقيم الإنسانية المشتركة، وهروب متعمد من واجب دفع استحقاقات الالتحاق بالعصر والاندماج في الحضارة الحديثة، وصولاً إلى العجز المطلق عن إضفاء أبعاد ثقافية على هذه القيم المشتركة، والانسحاب من مباراة تطوير وتأهيل الثقافات لاستيعاب مطالب واحتياجات الشعوب والمجتمعات في هذه الحقبة من تاريخ تطوُّر الحضارة البشرية المعاصرة.
ليست الخصوصيات الثقافية عناصر ثابتة لا تخضع للتطور التاريخي الحضاري، ولسنا بحاجة إلى التذكير بان الثقافة السياسية المهيمنة على العالم العربي والإسلامي تصدّت للأفكار الدستورية والديموقراطية تحت شعار مقاومة «التغريب»، ومحاربة « الافكار المستوردة ». والدفاع عن الشريعة الاسلامية ، كما عارضت الميثاق العالمي لحقوق الانسان، ورفضت - بعناد شديد - تلبية مطالب المجتمع الدولي الحديث بإصدار تشريعات وقوانين وضعية لتحريم الرق. وكانت تلك المواقف الرافضة للحداثة تتغطّى دائماً بذرائع «الهوية والخصوصية الدينية والثقافية».
لم يكن الفقهاء في عاصمة دولة الخلافة العثمانية يفكرون خارج الخصوصية الثقافية حين عارضوا في رسالتهم الشهيرة إلى السلطان العثماني في القرن السابع عشر الميلادي التوقيع على معاهدة وينسفاليا 1648 التي فرضتها حاجة الرأسمالية الصاعدة والثورة الصناعية في عصر النهضة لوقف حروب التوسع الإقطاعية، وتأسيس فكرة السيادة الحدودية الوطنية، وتمهيد الطريق لولادة الدولة القومية وبناء منظومة جديدة للعلاقات بين الأمم والدول. وبرروا رفضهم لمعاهدة وينسفاليا آنذاك بأنها تتعارض مع ماأسموه (أحكام الشريعة الاسلامية)!!
كان فقهاء الدولة العثمانية في العالم الإسلامي يرون في التوقيع على هذه المعاهدة تعطيلاً لآيات (السيف) وإنكاراً لفريضة الجهاد التي تُوجب نشر الدعوة الإسلامية والتمكين لدين الله في الأرض بواسطة الغزوات الجهادية، وكذلك الحال عندما أفتى الفقهاء في القرن التاسع عشر بعدم جواز الخضوع لمطالب الدول الأجنبية بتحريم الرق، لأن التحريم المطلوب تشريعٌ وضعيٌ لا أساس له في الشريعة الإسلامية التي تُبيح للأحرار شراء وتشغيل العبيد، و التسّري بالجواري ونكاح ملك اليمين!
ومما له دلالة أن الفقهاء ورجال الدين في اسطنبول والقاهرة ومكة وطنجة وقُم وصنعاء اتهموا آنذاك أوروبا وأمريكا التي كانت تضغط في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الميلادي، لإصدار تشريعات تحرّم الرق، بأنها تسعى إلى تغيير القرآن والتدخل في نمط ومناهج حياة المسلمين.
من خلال ما تقدم نستطيع تفسير اسباب تأخر العالم العربي والإسلامي عن الاستجابة الثقافية لتحديات الموجة الأولى والمبكرة للعولمة الرأسمالية والحضارة الصناعية الحديثة، اللتين استوجبتا صياغة أسس جديدة ومعاصرة للعلاقات بين الدول والأمم والأديان على نحو ماتضمنته معاهدة وينسفاليا في القرن السابع عشر، ومعاهدة تحريم الرق التي سعت الثورة الأميركية بالتعاون مع أوروبا الرأسمالية الى تدويلها في أواخر القرن التاسع عشر.
لا نحتاج إلى القول بأن تحريم الرّق في العالم الإسلامي تم بمقتضى ضغوط الحضارة الصناعية الحديثة، والموجة الأولى من « العالمية» التي رافقت ظهور وتطور نمط الانتاج الرأسمالي كنظام اقتصادي عالمي في العصر الحديث، وقد نتج عن تحريم الرّق تراجعٌ مطلقٌ لخصوصيات ماضوية في الفقه الديني و النظام القيمي والحقوقي لثقافتنا، وأهمها حقوق الرجال في التسرّي بالجواري، وحقوق الأحرار في التمييز بينهم وبين العبيد في المعاملات والعقوبات الجنائية، بحسب ما ينص عليه تأويل الفقهاء الأسلاف للشريعة الإسلامية.
لم يكن بروز مثل تلك الإشكاليات شيئاً جديداً في التاريخ الثقافي للمجتمعات الإسلامية، فقد ظل العالم الإسلامي يرفض استخدام المطبعة تحت ضغط الفتاوى الفقهية التي شكلت عنصراً طاغياً في النسيج التقليدي لثقافتنا.
كان رأي الفقهاء في المطبعة - على سبيل المثال - أنها مفسدة من شأن السماح باستخدامها فتح الباب على مصراعيه لانتشار الكبائر والموبقات مثل طباعة الرسوم وتغيير حروف القرآن، والقضاء على الكتابة بالخط العربي الذي كان حرفةً مجزيةً يرتزق منها الفقهاءُ والقضاة وكبار موظفي الدواوين في بلاط دولة الخلافة، ويحصلون من ورائها على الحظوة والمال وعلوّ الشأن.
بسبب هذه الثقافة لم يفطن المسلمون لقيمة المطبعة في التطور الحضاري، ولم يستوعبوا جيداً دورها الوظيفي في إطلاق مفاعيل التعليم والثقافة والعلوم والمعرفة، وتحويلها إلى فواعل اقتصادية واجتماعية وحضارية. ولذلك كان نظام التعليم في العالم الإسلامي حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين محصوراً في الجوامع والكتاتيب التي اكتفت بتحفيظ القرآن وشرح الأحاديث النبوية وأقوال الفقهاء، بالإضافة الى تلقين قواعد اللغة العربية والنصوص الشعرية، كما كانت الدراسة في الجوامع والكتاتيب ترتدي طابعاً نخبوياً ضيقاً، وتنحصر في نطاق ابناء الطبقة السياسية الحاكمة والنخب المحيطة ببلاط السلطان مثل القضاة والفقهاء وقادة الجيش والجواسيس والتجار.
المعروف ان الطباعة العربية بالحروف ظهرت في أوائل القرن السادس عشر في إيطاليا، بأمر من البابا يوليوس الثاني ودشنها البابا ليون العاشر سنة 1516م، وهو العام الذي طبع فيه اول كتاب ديني عن المسيحية، تلاه طبع سفر الزبور سنة 1516، وبعد قليل طبع القرآن الكريم في البندقية، ثم أعدمت طبعته خوفا ً من تأثيره على معتقدات النصارى. بيد أن الإيطاليين طبعوا في روما أول ترجمة للقرآن الكريم باللغة الإيطالية سنة 1547م كما طبعوا قانون ابن سينا في مجلد ضخم عام 1593 م وكتاب فيزياء الهواء للخوارزمي وهما كتابان علميان أفتى الفقهاء المسلمون بإحراقهما الى جانب عشرات الكتب في العلوم الطبيعية التي تعرضت لهجوم شديد على يد ابي حامد الغزالي وابن تيمية حيث قرر فقه السلاطين منذ ذلك الحين استبعاد هذه العلوم بذريعة أنه لا نفع منها في معاش الناس، كما قرروا أيضا حصر صفة (العلماء) على المشتغلين في تحفيظ وتفسير القرآن وكتب الحديث واللغة العربية فقط. ما أدى الى توقف الحضارة الاسلامية عن انتاج العلوم الطبيعية وانتقالها الى الغرب والتمهيد للثورة الصناعية خارج العالم الاسلامي منذ ذلك الحين وحتى الآن!!
وقد كثرت المطابع العربية في أوروبا وطبعت فيها مئات من كتب الفلاسفة العرب والمسلمين الذين اضطهدهم الفقهاء وتعرضت كتبهم للإحراق بعد تكفيرهم، وكان أكثر هذه المطابع في لندن وباريس وليبسك وليدن وغونتجتن وروما وفينا وبرلين وبطربسبرج وغيرها.
اللافت للنظر أن العالم الإسلامي عرف الطباعة لأول مرة في أوائل القرن السادس عشر في الأستانة عاصمة دولة الخلافة العثمانية لكن الفقهاء قاوموا وجودها بقوة، الأمر الذي دفع يهود الدولة الإسلامية الى الإستفادة منها بطبع ترجمة عربية للتوراة، أما الطباعة باللغة العربية فقد دخلت العالم الإسلامي لأول مرة في منتصف القرن الثامن عشر على يد محمد جلبي وابنه سعيد.. وكان الجلبي سفيرا ً للدولة العثمانية في باريس فشهد وإبنه سعيد فوائد الطباعة، ونجح بصعوبة بالغة في إقناع الفقهاء الذين أصدروا عام 1728 م فتوى بطباعة الكتب غير الدينية فقط.
وعندما لاحظ الفقهاء انتشار كتب الحكمة والفلسفة واللغة والأدب والتاريخ والطب والفلك والجغرافيا والفيزياء والكيمياء ورخص أسعارها، شعروا بالانزعاج، فأصدروا فتوى أخرى تجيز طبع الكتب الدينية وآذنوا بطبع وتجليد القرآن الكريم الأمر الذي أفسح المجال لانتشار المطابع وظهور الصحف والمجلات والمدارس الحديثة التي تعتمد على الكتب المدرسية المطبوعة.
من المفارقات المؤلمة، ان المسلمين كانوا يصنعون ورق الطباعة ويصدّرونها إلى مختلف البلدان، وفي مقدمتها الصين التي اشتهرت بصناعة وتصدير المطابع اليدوية القديمة إلى الأمصار المختلفة في العصور الوسطى، باستثناء العالم الإسلامي الذي رضخ للفتاوى الخاصة بتحريم الطباعة باسم الدين بذريعة تصادمها مع الشريعة الاسلامية، ثم أُجبر بالقوة على التعامل مع المطبعة، بعد أن عرفها لأول مرة في القرن الثامن عشر الميلادي على يد نابليون بونابرت الذي أحضرها مع الحملة الفرنسية على مصر وطبع بها كتاب «وصف مصر» الشهير، وهو أول كتاب يطبع باللغتين العربية والفرنسية في العالم الإسلامي.
وعندما فكر الباب العالي في عاصمة دولة الخلافة - اسطنبول - في استخدام المطبعة، بعد أن بدأ الاهتمام بفوائدها على أثر دخولها مصر وطبع كتاب «وصف مصر» باللغة العربية، ثارت ثائرة الفقهاء الذين اعتبروها بدعةً وغزواً ثقافياً شيطانياً، واصدروا فتوى مماثلة لفتوى عدم جواز التوقيع على معاهدة وينسفاليا في القرن السابع عشر والفتوى المعارضة لمعاهدة تحريم الرق التي صدرت في وقت لاحق.!
حدث ذلك أيضاً في العصور الوسطى، عندما اسهم نشاط حركة الترجمة من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية في استنهاض أدوات التفكير العلمي ومناهج البحث الفلسفي، ما أدى إلى أن يحارب الفقهاءُ المتشدّدون في منتصف الألفية الهجرية الأولى ومطلع الألفية الميلادية الثانية ابن رشد وابن سيناء والفارابي والرازي وابن الهيثم والخوارزمي وغيرهم من القمم الفكرية والعلمية في التاريخ الاسلامي، التي ترجمت ارسطو وافلاطون وسقراط وأعلام الفكر الاغريقي القديم، وخاضت بجسارة في علوم الطب والكيمياء والفيزياء والرياضيات والأحياء والفلك والفلسفة قبل أن يتعرض العقل والعلوم الطبيعية للحرب والتسفيه والتحقير والاضطهاد على أيدي الفقهاء المشتغلين في علوم القرآن والحديث.
لم يكتف الفقهاء المتشدّدون بمحاربة الفلسفة وعلوم الطب والرياضيات والكيمياء والفيزياء والمنطق والفلك، بل سعوا إلى تكفير العلماء والتنكيل بهم وإحراق كتبهم ومؤلفاتهم، وكانوا سبباً في انتقال المؤلفات الناجية من محارقهم إلى أوروبا، حيث أُمكن ترجمتها من العربية إلى اللغات الأوروبية، وما تمخض عن ذلك من إرهاصات نهضوية أخرجت أوروبا المسيحية من ظلام العصور الوسطى على يد العلماء المسلمين الذين تعرضوا للتنكيل والتكفير في العالم الاسلامي. وأفضت الحرب التي شنها فقهاء التشدد على العقل باسم الشريعة الاسلامية منذ منتصف القرن الهجري الخامس الى تأسيس مشروع ثقافة طقوسية نكوصية ابتعدت عن جوهر العقيدة الإسلامية، ومهدت لغروب شمس الحضارة الإسلامية، وسقوط بغداد تحت براثن الغزو المغولي الذي دشن عصر الانحطاط، ما أدى الى دخول العالم الإسلامي نفقاً مظلماً وطويلاً لم نخرج منه حتى الآن.
والتراجعات التي تتالت منذ قرون طويلة، تمتد إلى بدايات ظهور السلفية المتشددة التي مارست مختلف أشكال العداء للعقل، وحاربت الفلسفة والعلوم الطبيعية والترجمة، واضطهدت رواد العلم المسلمين من الفلاسفة وعلماء الكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والمنطق، وأحرقت كتبهم الثمينة، وحصرت صفة أهل العلم والعلماء على المشتغلين فقط في مجال الفقه والخطابة الدينية الشفاهية وحفظ وتلقين النصوص الفقهية، الأمر الذي مهّد لتراجع مساهمة العرب والمسلمين في إنتاج وتطوير وتحديث منجزات العلوم والآداب والفلسفة والفنون، وصولاً إلى غروب شمس الحضارة العربية والإسلامية.. وزاد من خطورة هذا المأزق أنّه تزامن مع انتقال الحضارة الحديثة في نهاية الألفية الثانية وبدايات الألفية الثالثة، من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.. ومن العالمية إلى العولمة.
مما له دلالة أن الآلة بوصفها أبرز معطيات الحداثة الإنتاجية في حقبة الثورة الصناعية، انتجت وقائع وحقائق جديدة، ووحدت العالم في شبكة علاقات ذات طابع عمودي.. بيد أن دخول الرقم كعنصر حاسم في الإنتاج الإليكتروني جعل الواقع والحقيقة مفتوحين أمام تحولات بلا حدود.. بمعنى إمكانية إكساب العالم الواقعي بنية أفقية اندماجية لامتناهية، بعكس عالم الثورة الصناعية العمودي والمجرد.
كانت التناقضات في عالم الحداثة الصناعية قائمة ً بين بنى محورية ذات حدود صارمة، وبين فواعل ومفاعيل ترتبط فيما بينها بعلاقات عمودية.. اما عالم ما بعد الحداثة فهو يتسم بنزوعه نحو التحول الى بنية سوقية محورية ومندمجة، تصبح التناقضات معها قائمة ً بين فاعِلَيْن متميِّزَيْن بطريقتي تفكير متناقضتين.. الأول يفكر بعقلية ديناميكية ويعمل على تطوير أنماط التفكير والعيش من خلال الاندماج ضمن سوق كونية تتوفر فيها فرص غير مسبوقة لتبادل المعطيات من أفكار وسلع وخدمات ومعلومات، فيما يفكر الآخر بعقلية انعزالية تقليدية، ويصر على العمل وفق قوالب مدرسية نقلية، وأفكار ماضوية متكلسة وجاهزة، ما يؤدي الى إهدار الفرص المتاحة للتقدم، والاستمرار في إعادة إنتاج العجز، وتهميش الذات بالذات نفسها!!
صحيح ان ثمة فجوة حضارية كبيرة تفصل بين العالم العربي والإسلامي وبين الغرب، وهي فجوة تجسد تخلف البلدان العربية والاسلامية عن اللحاق بعصر الحداثة الأولى التي دشنتها الثورة الصناعية والتقنيات العلمية في القرن السابع عشر الميلادي وبلغت ذروتها في القرون الثلاثة الأخيرة، وكان من نتائجها تقسيم العالم الى مركز مهيمن وأطراف تابعة ومعزولة، وما ترتب على ذلك من عالمية ذات طابع عمودي.لكن عصر الثورة الإليكترونية، بما هو عصر الانفجار المعرفي وما بعد الحداثة يتسم بالنزوع الى تغيير خارطة العلاقة بين مفاعيل النظام الكوني.. فالمادة لم تعد عضوية وآلية بل اليكترونية ومعلوماتية.. وبالمقابل لم يعد الفكر يبحث عن الحقيقة من خلال المعطيات الموروثة والقائمة فعلا، بل من خلال المعطيات التي يهتم العقل بالتفكير في إبداعها وإنتاجها عبر تقنيات المعلومات وشبكات الاتصال، وما يترتب على ذلك من تغيير العلاقة بين الوعي المعرفي والواقع الملموس.
من المفارقات التي تميز عصر العولمة وما بعد الحداثة عما قبله، انه ينطوي على حوافز وفرص تفتح إمكانات هائلة أمام كل من يرغب في الاندماج به للتأثير في مفاعيله الداخلية وتغيير قواعد حركتها.. بمعنى ان العولمة فضاء مفتوح للمجايلة والمشاركة والاشتغال على معطياتها ووقائعها من خلال قدرات معرفية وأنساق ذهنية، لا قدرات مادية عضوية كما هو حال الحداثة الصناعية.
يُخطئ من يعتقد بأن العولمة الرأسمالية ظاهرة جديدة يسهل مناهضتها ومقاومتها بالاحتجاجات والمظاهرات والمقالات والدعاء بالمساجد، فثمة ميول قديمة للعولمة ارتبطت بتطور نمط الانتاج الرأسمالي وميوله نحو العالمية التي عززتها وضاعفت مفاعيلها إنجازات العلوم الحديثة، ونتائج الكشوفات الجغرافية ومخرجات الثورة الصناعية الأولى في منتصف الألفية الثانية من التاريخ الميلادي، لتتحول بعد ذلك إلى نظام عالمي للإنتاج والتسويق والاستهلاك نشأت على تربته حروب وخطوط السيطرة على الأسواق ومصادر الخامات وممرات الملاحة الدولية في مختلف القارات!!.
لا ريب في أن الاستعمار وحروب التوسع الاستعمارية اسهما في إيقاظ الوعي الوطني وظهور الحركات القومية التي تتوّجت بولادة الدولة الأمة، على أنقاض الدول الامبراطورية الجامعة والهويات الدينية والعصبية المانعة، وما ترتب على ذلك من إشكاليات ثقافية نجمت عن ظهور نزعات مصاحبة للدولة القومية مثل الشوفينية والتعصب القومي، ووصلت ذروتها في النازية والصهيونية والأبارثيد. بيد أن المظهر الأبرز للعولمة في الحقبة الجديدة والراهنة من عصرنا، بقدر ما اكتسب طابعاً ثورياً نتيجة لثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي اختصرت المسافات، وتجاوزت الحدود السياسية والقومية والثقافية، أسهم في تقويض الأسس المادية للشوفينية وضيق الأفق الوطني والتعصّب القومي، وصولاً الى إفساح الطريق أمام توسيع فرص وإمكانات تلاقح الثقافات، وتحفيز الشعوب والأمم المختلفة لبناء نظام عالمي للقيم الانسانية.
ولعل تلك الميول تنطوي على أبعاد ايجابية من شأنها تحفيز مختلف الثقافات على الإبداع في مجال القيم الإنسانية المشتركة، وما يترتب عن ذلك من تعظيم فرص مطالبة الشعوب والمجتمعات المختلفة بالديمقراطية والعدالة والمساواة ومكافحة جميع أشكال التمييز بين البشر رجالاً ونساءً، وفي المقدمة منها التمييز ضد المرأة.. ولا أبالغ حين أقول إن الاستجابة لتحديات العولمة في طورها الجديد لا تتحقق بواسطة طرح سؤال الخصوصية والهوية من منطلق دفاعي انعزالي، لأن النزوع إلى الدفاع أو المقاومة الدفاعية قد ينطوي على رفض مموّه للقيم الإنسانية المشتركة، وهروب متعمد من واجب دفع استحقاقات الالتحاق بالعصر والاندماج في الحضارة الحديثة، وصولاً إلى العجز المطلق عن إضفاء أبعاد ثقافية على هذه القيم المشتركة، والانسحاب من مباراة تطوير وتأهيل الثقافات لاستيعاب مطالب واحتياجات الشعوب والمجتمعات في هذه الحقبة من تاريخ تطوُّر الحضارة البشرية المعاصرة.
ليست الخصوصيات الثقافية عناصر ثابتة لا تخضع للتطور التاريخي الحضاري، ولسنا بحاجة إلى التذكير بان الثقافة السياسية المهيمنة على العالم العربي والإسلامي تصدّت للأفكار الدستورية والديموقراطية تحت شعار مقاومة «التغريب»، ومحاربة « الافكار المستوردة ». والدفاع عن الشريعة الاسلامية ، كما عارضت الميثاق العالمي لحقوق الانسان، ورفضت - بعناد شديد - تلبية مطالب المجتمع الدولي الحديث بإصدار تشريعات وقوانين وضعية لتحريم الرق. وكانت تلك المواقف الرافضة للحداثة تتغطّى دائماً بذرائع «الهوية والخصوصية الدينية والثقافية».
لم يكن الفقهاء في عاصمة دولة الخلافة العثمانية يفكرون خارج الخصوصية الثقافية حين عارضوا في رسالتهم الشهيرة إلى السلطان العثماني في القرن السابع عشر الميلادي التوقيع على معاهدة وينسفاليا 1648 التي فرضتها حاجة الرأسمالية الصاعدة والثورة الصناعية في عصر النهضة لوقف حروب التوسع الإقطاعية، وتأسيس فكرة السيادة الحدودية الوطنية، وتمهيد الطريق لولادة الدولة القومية وبناء منظومة جديدة للعلاقات بين الأمم والدول. وبرروا رفضهم لمعاهدة وينسفاليا آنذاك بأنها تتعارض مع ماأسموه (أحكام الشريعة الاسلامية)!!
كان فقهاء الدولة العثمانية في العالم الإسلامي يرون في التوقيع على هذه المعاهدة تعطيلاً لآيات (السيف) وإنكاراً لفريضة الجهاد التي تُوجب نشر الدعوة الإسلامية والتمكين لدين الله في الأرض بواسطة الغزوات الجهادية، وكذلك الحال عندما أفتى الفقهاء في القرن التاسع عشر بعدم جواز الخضوع لمطالب الدول الأجنبية بتحريم الرق، لأن التحريم المطلوب تشريعٌ وضعيٌ لا أساس له في الشريعة الإسلامية التي تُبيح للأحرار شراء وتشغيل العبيد، و التسّري بالجواري ونكاح ملك اليمين!
ومما له دلالة أن الفقهاء ورجال الدين في اسطنبول والقاهرة ومكة وطنجة وقُم وصنعاء اتهموا آنذاك أوروبا وأمريكا التي كانت تضغط في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الميلادي، لإصدار تشريعات تحرّم الرق، بأنها تسعى إلى تغيير القرآن والتدخل في نمط ومناهج حياة المسلمين.
من خلال ما تقدم نستطيع تفسير اسباب تأخر العالم العربي والإسلامي عن الاستجابة الثقافية لتحديات الموجة الأولى والمبكرة للعولمة الرأسمالية والحضارة الصناعية الحديثة، اللتين استوجبتا صياغة أسس جديدة ومعاصرة للعلاقات بين الدول والأمم والأديان على نحو ماتضمنته معاهدة وينسفاليا في القرن السابع عشر، ومعاهدة تحريم الرق التي سعت الثورة الأميركية بالتعاون مع أوروبا الرأسمالية الى تدويلها في أواخر القرن التاسع عشر.
لا نحتاج إلى القول بأن تحريم الرّق في العالم الإسلامي تم بمقتضى ضغوط الحضارة الصناعية الحديثة، والموجة الأولى من « العالمية» التي رافقت ظهور وتطور نمط الانتاج الرأسمالي كنظام اقتصادي عالمي في العصر الحديث، وقد نتج عن تحريم الرّق تراجعٌ مطلقٌ لخصوصيات ماضوية في الفقه الديني و النظام القيمي والحقوقي لثقافتنا، وأهمها حقوق الرجال في التسرّي بالجواري، وحقوق الأحرار في التمييز بينهم وبين العبيد في المعاملات والعقوبات الجنائية، بحسب ما ينص عليه تأويل الفقهاء الأسلاف للشريعة الإسلامية.
لم يكن بروز مثل تلك الإشكاليات شيئاً جديداً في التاريخ الثقافي للمجتمعات الإسلامية، فقد ظل العالم الإسلامي يرفض استخدام المطبعة تحت ضغط الفتاوى الفقهية التي شكلت عنصراً طاغياً في النسيج التقليدي لثقافتنا.
كان رأي الفقهاء في المطبعة - على سبيل المثال - أنها مفسدة من شأن السماح باستخدامها فتح الباب على مصراعيه لانتشار الكبائر والموبقات مثل طباعة الرسوم وتغيير حروف القرآن، والقضاء على الكتابة بالخط العربي الذي كان حرفةً مجزيةً يرتزق منها الفقهاءُ والقضاة وكبار موظفي الدواوين في بلاط دولة الخلافة، ويحصلون من ورائها على الحظوة والمال وعلوّ الشأن.
بسبب هذه الثقافة لم يفطن المسلمون لقيمة المطبعة في التطور الحضاري، ولم يستوعبوا جيداً دورها الوظيفي في إطلاق مفاعيل التعليم والثقافة والعلوم والمعرفة، وتحويلها إلى فواعل اقتصادية واجتماعية وحضارية. ولذلك كان نظام التعليم في العالم الإسلامي حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين محصوراً في الجوامع والكتاتيب التي اكتفت بتحفيظ القرآن وشرح الأحاديث النبوية وأقوال الفقهاء، بالإضافة الى تلقين قواعد اللغة العربية والنصوص الشعرية، كما كانت الدراسة في الجوامع والكتاتيب ترتدي طابعاً نخبوياً ضيقاً، وتنحصر في نطاق ابناء الطبقة السياسية الحاكمة والنخب المحيطة ببلاط السلطان مثل القضاة والفقهاء وقادة الجيش والجواسيس والتجار.
المعروف ان الطباعة العربية بالحروف ظهرت في أوائل القرن السادس عشر في إيطاليا، بأمر من البابا يوليوس الثاني ودشنها البابا ليون العاشر سنة 1516م، وهو العام الذي طبع فيه اول كتاب ديني عن المسيحية، تلاه طبع سفر الزبور سنة 1516، وبعد قليل طبع القرآن الكريم في البندقية، ثم أعدمت طبعته خوفا ً من تأثيره على معتقدات النصارى. بيد أن الإيطاليين طبعوا في روما أول ترجمة للقرآن الكريم باللغة الإيطالية سنة 1547م كما طبعوا قانون ابن سينا في مجلد ضخم عام 1593 م وكتاب فيزياء الهواء للخوارزمي وهما كتابان علميان أفتى الفقهاء المسلمون بإحراقهما الى جانب عشرات الكتب في العلوم الطبيعية التي تعرضت لهجوم شديد على يد ابي حامد الغزالي وابن تيمية حيث قرر فقه السلاطين منذ ذلك الحين استبعاد هذه العلوم بذريعة أنه لا نفع منها في معاش الناس، كما قرروا أيضا حصر صفة (العلماء) على المشتغلين في تحفيظ وتفسير القرآن وكتب الحديث واللغة العربية فقط. ما أدى الى توقف الحضارة الاسلامية عن انتاج العلوم الطبيعية وانتقالها الى الغرب والتمهيد للثورة الصناعية خارج العالم الاسلامي منذ ذلك الحين وحتى الآن!!
وقد كثرت المطابع العربية في أوروبا وطبعت فيها مئات من كتب الفلاسفة العرب والمسلمين الذين اضطهدهم الفقهاء وتعرضت كتبهم للإحراق بعد تكفيرهم، وكان أكثر هذه المطابع في لندن وباريس وليبسك وليدن وغونتجتن وروما وفينا وبرلين وبطربسبرج وغيرها.
اللافت للنظر أن العالم الإسلامي عرف الطباعة لأول مرة في أوائل القرن السادس عشر في الأستانة عاصمة دولة الخلافة العثمانية لكن الفقهاء قاوموا وجودها بقوة، الأمر الذي دفع يهود الدولة الإسلامية الى الإستفادة منها بطبع ترجمة عربية للتوراة، أما الطباعة باللغة العربية فقد دخلت العالم الإسلامي لأول مرة في منتصف القرن الثامن عشر على يد محمد جلبي وابنه سعيد.. وكان الجلبي سفيرا ً للدولة العثمانية في باريس فشهد وإبنه سعيد فوائد الطباعة، ونجح بصعوبة بالغة في إقناع الفقهاء الذين أصدروا عام 1728 م فتوى بطباعة الكتب غير الدينية فقط.
وعندما لاحظ الفقهاء انتشار كتب الحكمة والفلسفة واللغة والأدب والتاريخ والطب والفلك والجغرافيا والفيزياء والكيمياء ورخص أسعارها، شعروا بالانزعاج، فأصدروا فتوى أخرى تجيز طبع الكتب الدينية وآذنوا بطبع وتجليد القرآن الكريم الأمر الذي أفسح المجال لانتشار المطابع وظهور الصحف والمجلات والمدارس الحديثة التي تعتمد على الكتب المدرسية المطبوعة.
من المفارقات المؤلمة، ان المسلمين كانوا يصنعون ورق الطباعة ويصدّرونها إلى مختلف البلدان، وفي مقدمتها الصين التي اشتهرت بصناعة وتصدير المطابع اليدوية القديمة إلى الأمصار المختلفة في العصور الوسطى، باستثناء العالم الإسلامي الذي رضخ للفتاوى الخاصة بتحريم الطباعة باسم الدين بذريعة تصادمها مع الشريعة الاسلامية، ثم أُجبر بالقوة على التعامل مع المطبعة، بعد أن عرفها لأول مرة في القرن الثامن عشر الميلادي على يد نابليون بونابرت الذي أحضرها مع الحملة الفرنسية على مصر وطبع بها كتاب «وصف مصر» الشهير، وهو أول كتاب يطبع باللغتين العربية والفرنسية في العالم الإسلامي.
وعندما فكر الباب العالي في عاصمة دولة الخلافة - اسطنبول - في استخدام المطبعة، بعد أن بدأ الاهتمام بفوائدها على أثر دخولها مصر وطبع كتاب «وصف مصر» باللغة العربية، ثارت ثائرة الفقهاء الذين اعتبروها بدعةً وغزواً ثقافياً شيطانياً، واصدروا فتوى مماثلة لفتوى عدم جواز التوقيع على معاهدة وينسفاليا في القرن السابع عشر والفتوى المعارضة لمعاهدة تحريم الرق التي صدرت في وقت لاحق.!
حدث ذلك أيضاً في العصور الوسطى، عندما اسهم نشاط حركة الترجمة من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية في استنهاض أدوات التفكير العلمي ومناهج البحث الفلسفي، ما أدى إلى أن يحارب الفقهاءُ المتشدّدون في منتصف الألفية الهجرية الأولى ومطلع الألفية الميلادية الثانية ابن رشد وابن سيناء والفارابي والرازي وابن الهيثم والخوارزمي وغيرهم من القمم الفكرية والعلمية في التاريخ الاسلامي، التي ترجمت ارسطو وافلاطون وسقراط وأعلام الفكر الاغريقي القديم، وخاضت بجسارة في علوم الطب والكيمياء والفيزياء والرياضيات والأحياء والفلك والفلسفة قبل أن يتعرض العقل والعلوم الطبيعية للحرب والتسفيه والتحقير والاضطهاد على أيدي الفقهاء المشتغلين في علوم القرآن والحديث.
لم يكتف الفقهاء المتشدّدون بمحاربة الفلسفة وعلوم الطب والرياضيات والكيمياء والفيزياء والمنطق والفلك، بل سعوا إلى تكفير العلماء والتنكيل بهم وإحراق كتبهم ومؤلفاتهم، وكانوا سبباً في انتقال المؤلفات الناجية من محارقهم إلى أوروبا، حيث أُمكن ترجمتها من العربية إلى اللغات الأوروبية، وما تمخض عن ذلك من إرهاصات نهضوية أخرجت أوروبا المسيحية من ظلام العصور الوسطى على يد العلماء المسلمين الذين تعرضوا للتنكيل والتكفير في العالم الاسلامي. وأفضت الحرب التي شنها فقهاء التشدد على العقل باسم الشريعة الاسلامية منذ منتصف القرن الهجري الخامس الى تأسيس مشروع ثقافة طقوسية نكوصية ابتعدت عن جوهر العقيدة الإسلامية، ومهدت لغروب شمس الحضارة الإسلامية، وسقوط بغداد تحت براثن الغزو المغولي الذي دشن عصر الانحطاط، ما أدى الى دخول العالم الإسلامي نفقاً مظلماً وطويلاً لم نخرج منه حتى الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق