بينما نحن نعيش في عالمنا الخيالي ولا بغيرنا نبالي، وبينما يحلم شيوخ ديننا بحوريات الجنّة ويتوقون إلى حجز مكان لهم في جنّات النعيم، وبينما نحن ننعت غيرنا بالكفّار ونبشّرهم بعذاب السعير وعذاب جهنّم وبئس المصير... نجد غيرنا لا يأبهون بما ننعتهم به ولا يحفلون بتخلّفنا وإصرارنا على ممارسة التخلّف، فنراهم يواصلون العمل بكل جد وإخلاص، ونتفرّج عليهم وهم يسعون بكل مثابرة وإصرار لإسعاد البشريّة وتأمين حياة البشر.
وبينما يقول لنا كهنة الدين عندنا بأن الحضارة الغربية هي حضارة زائفة، وبأن جنّة أولئك (الكفرة) هي في دنياهم، يعدوننا نحن "المسلمين" بحياة الخلد والسعادة الأبديّة، ويطمئنوننا بأن كل ما نعانيه في حياتنا الدنيا سوف نجازى عليه ثواباً زائداً في الآخرة.
بينما نحن نعيش بأحلامنا الورديّة ونطمئن أنفسنا بأنّنا أطهر منهم وأعرف منهم وأكثر منهم قرباً من الله، نجدهم هم يعيشون الواقع ولا ينتظروا تحقيق تلك "الأحلام الورديّة" التي تقع في علوم الغيب وتخضع لشئون المستقبل المحتسب لكنّه "الغير منظور".
بينما هو الحال كذلك، نجد أنفسنا وللأسف نعيش في عالم نصنعه من خيالاتنا وننسج موجوداته من وحي "نرجسيّتنا" التي لا تخضع لإعادة النظر ولا ترضى بالمراجعة أو المحاسبة.
بينما هي الأمور كذلك أجدني أحسّ بأنّنا نحن - أغلب المسلين - نمضي أيّامنا وليالينا مثل السكارى أو المهووسين ولا ندري ماذا يجري حولنا، بل وأحياناً نغرس رؤوسنا في الرمال فعسى ما يحدث أن يعبر ويتركنا لحالنا. نحن وللأسف مع كل مثالبنا، تجدنا غافلين ولا ندري ما يمر بنا من أحداث عاصفة وصاعقة ومخجلة ومدمّرة لنا ولديننا ولثقافتنا... ولطريقة تفكيرنا.
أعتقد بأنّه كان بالفعل قد حان الوقت لنا كي نصحى من هذا السبات العميق، وحان لنا بأن ننظر حولنا فعسانا أن نرى واقعنا على حقيقته... بؤس، تعاسة، قهر، مذلّة وإذلال، كذب، نفاق، غدر وخيانة، خداع، دجل، تدليس، تقتيل، تشريد.... قطع للرؤوس، ذبح للبشر.... وقطع للأعناق. أليست هذه بربريّة يندر وجود مثلها في العصر الحديث؟.
بينما نحن نعيش في أتون هذا الواقع المرير نجد انّ أغلبنا لا يشعر بعمق المأساة ولا يحسّ بفداحة ما يجري في عالمنا الإسلامي الذي أصبح مرتعاً لكل أفّاق ولئيم ليعبث بكرامة البشر بإسم الله وبإسم الدين بينما يسكت الآخرون عمّا تبصره أعينهم وكأنّ الأمر لا يعنيهم في شئ. بل إنّنا نجد الكثير من شيوخ ديننا وهم يتستّرون على ما يشهدون ويبحثون له عن مبرّرات واهية وأحياناً يغلّفونه بآكاذيب هي بالفعل أقبح من الذنب نفسه.
بينما نحن نعيش مرحلة إنكار طال أمدها، نجد غيرنا من "الكفّار" وهم يعيشون الواقع بكل معطياته ويتعاملوا معه كما يجدوه، بل إنّهم يجيدون الحفر عميقاً عن الخبايا حتى يتمكّنوا من إخراجها للعيان بهدف تغييرها والنئ عنها.
بينما نحن نستثمر في صناعة الموت حتى نعجّل بقيام الساعة - أو كما يظن بعضنا من الموتورين - نجدهم هم يستثمرون في صنع الحياة من أجل إدامة حياة البشر وإدخال المزيد من السعادة فيها.
وبينما أنا أشاركهم حياتهم وأحسّ بمعاناتنا، حضرت ظهر هذا اليوم إجتماعاً ربع سنوي يلتئم كل ثلاثة أشهر على مدار السنة يخصّص لمناقشة المشاكل والبحث عن كل وسيلة من أجل منع تكرارها ويحضره كل المعنيّين بالمهن العصبيّة. هم هنا لا يتحدّثون إطلاقاً عن إنجازاتهم وما كانوا قد حقّقوه، وإنّما يبحثون عن كل مشكلة حدثت خلال الفترة السابقة لكل إجتماع وتحديد الطرف المسئول عنها الذي يعلن بكل صراحة بأن ما حدث كان بسبب خطأ في التطبيق أو الممارسة أو إتباع الإرشادات، ويعلن في نفس الوقت تحمّله للخطأ مهما كبر أو صغر، ذلك لوحده يعد رادعاً كافياً لضمان عدم تكرار نفس الخطأ. هم لا يتحدّثون عن إنجازاتهم لأنهم يعتبرون أن "الإنجاز" ما هو إلا "أمر طبيعيّ" يدخل من ضمن واجبات صاحب الإنجاز فلا يشكر عليه، وفي المقابل يعتبرون الإخلال في تحقيق الهدف عجزاً وفشلاً توجب المحاسبة عليه كي تسير الأمور إلى الأحسن.
تم طرح ثلاثة حوادث وقعت خلال الثلاثة أشهر السابقة لهذا الإجتماع، وكانت على النحو التالي:
1- حالة رجل في آخر السبعينات من عمره، تم وضع أنبوب في أنفه بغرض التغذية نظراً لتعذّر التغذية الطبيعيّة من الفم. هذا الرجل تمت تغذيته من الأنبوب من قبل الممرّضات فإذا به يحسّ بتضيّق في التنفّس لاحقاً في ذلك اليوم. أحضروا له الطبيب المناوب وهو من الأطباء الصغار، وعندما لم يجد شيئاً يمكنه إصلاحه طلب من أخصائي الأمراض الصدريّة ليقوم بفحص المريض والبحث عن سبب صعوبة التنفّس لديه. أخصّائي الأمراض الصدريّة كان بمرتبة نائب (ريجسترار) متخصّص، وبمجرّد رؤيته للمريض وهو يعاني من صعوبة في التنفّس قام بطلب صورة مقطعيّة للصدر مع الأوعية الدموية للرئتين آملاً في تشخيص جلطة رئوية يمكن علاجها. لسوء حظّه، الصور المقطعيّة لم تتمكّن من إظهار أي عطب بأوعية الرئة الدموية. في تلك الأثناء، طلب من الأقدم منه خبرة (إستشاري الأمراض الصدريّة) ليقوم بحل معضلة المريض التنفّسيّة. الإستشاري هذا أخرج سمّاعته وإستمع إلى صدر المريض (الريجسترار لم يفعل ذلك لثقته بأن كل الشواهد تشير إلى جلطة رئوية)، وهنا وجد الإستشاري بأن الرئة اليمنى كانت صامته تماماً ولا هواء يدخل إليها. طلب للمريض صورة أشعة صدرية فأبانت إلتهاب رئوي حاد كان سببه عطل في أنبوب التغذية الذي إنحرف عن موضعه ودخل القصبة الهوائية بدل المرئ ثم المعدة، مما إدّى إلى دخول الغذاء للرئتين وهذا أدّى إلى إلتهاب الرئة. المريض تم نقله للعناية الفائقة، لكنّه توفي هناك لاحقاً.
هذه القضيّة تم نشرها في كل المستشفى وتم التحقيق بشأنها، وأصدر المستشفى أمراً عاجلاّ بتغيير البروتوكول المعني بأنابيب التغذية بالكامل بحيث لا تتكرّر مثل هذا الحادثة في المستقبل.
2- الحالة الثانية، كانت لإمراءة مسنّة في بداية الثمانينات من عمرها أصيبت بجلطة مخيّة، وعندما أحضرتها سيارة الإسعاف شرع الأطباء بفحصها معدّين إيّاها للحقن بمذيب الجلطة. المشكلة أن ضغط دمها كان عالياً، ولا يمكن أن يعطى مذيب الجلطة إذا كان ضغط الدم أعلى من الأرقام الموضوعة في بروتوكول علاج الجلطة. حاول الأطباء المناوبون - بما فيهم الإستشارية في الأمراض العصبية - تخفيض الضغط بحقن مخفّضات ضغط الدم لتجهيزها لحقن تذويب الجلطة بأسرع ما يمكن، حيث أنّه في هذه الحالات يتم التسابق مع عامل الزمن بحيث يتم الحقن في خلال الساعة على الأكثر. ضغط الدم رفض بأن ينزل تحت المطلوب فضعافوا جرعة مخفّض ضغط الدم حتى نزل الضغط تحت المطلوب حسب البروتوكول ثم قاموا بحقن المريضة بمذوّب الجلطة في حدود 90 دقيقة من بداية الأعراض وهو إنجاز رائع فرح به كل من كان في الرعاية وقتها.
المريضة تحسّنت قليلاً ثم إنتكست، فقام المناوبون بطلب صورة مقطعية لدماغها وهذه أظهرت نزيفاً بالمخ نتج عن حقن مذوّب الجلطة. المريضة ساءت حالتها وماتت في نهاية المطاف. جرى تحقيق كامل لكل ما جرى، وسرعان ما بدأ البحث عن أسباب ما حدث، وكيف حدث، ولماذا حدث بهدف عدم تكرار ما حدث، وتم الإستنجاد بأخصّائي الجلطة المخيّة لأخذ رأيه في الموضوع فقال بأنّه كان سيفعل ما فعله زملاءه في مثل هذه الحالة. وبدأت الأراء والإقتراحات تخرج من كل أخصائي ومستشار حتى رسى الأمر على تغيير البروتوكول بحيث لا يتكرّر مثل هذا الخطأ مستقبلاً.
3- تم بعد ذلك طرح الحالة الثالثة للنقاش... مريض تم إخراجه من المستشفى بوصفة طبيّة حدث فيها خطأ من قبل الطبيب المتدرّب والذي بدل أن يكتب "كلونازبام" كتب "كلونيدين". الوصفة تمّت كتابتها بسرعة حيث أن السرير كان معدّاً لإستقبال مريض آخر، وأرسلت الوصفة إلى الصيدلية التي صرفت الأدوية بدون مراجعة صحيفة أدوية المريض بالمستشفى، وهذا خطأ كبير. بعد ذلك تم إرسال المريض لبيته وبمعيّته قائمة أدويته التي كان من بينها "الكلونيدين" الذي لم يكن المريض يتناوله وهو في المستشفى.
المريض أكمل كمية الدواء التي ناولها له المستشفى وهي في العادة أسبوعين، وحينما طلب تجديد الوصفة من طبيب العائلة، إستغرب طبيب العائلة كيف أن مريضه يتناول دواء ليس في قائمة علاجه المعتاد. إتّصل بالمستشارة المناوبة حينها ولم يكن المريض من مرضاها فأهملت المستشارة المناوبة الأمر على أساس أنّه قضيّة غير جوهرية في تلك الأثناء ويمكن النظر فيها في اليوم التالي من قبل الإستشاري المعالج له حينما كان في المستشفى.
إتصل طبيب العائلة في اليوم التالي بالمستشار الذي كان يعالج المريض وهو في المستشفى فإستغرب ذلك المستشار كيف أن مريضه كان قد أعطي ذلك الدواء. وتم البحث في الموضوع حتى تبيّن بأن الطبيب المتدرّب كان مخطئاً، والصيدلانية التي صرفت الدواء كانت مخطئة، والممرّضة التي لم تراجع قائمة الأدوية قبل السماح للمريض بالذهاب إلى بيته كانت مخطئة، وبأن المستشارة التي إعترفت بأنّها لم تولي الموضوع أهمية قصوى كانت مخطئة. المريض لم تحدث له أية مضاعفات ولا مشاكل نتيجة لتناوله "الكلونيدين"، لكن المستشفى لم يترك الأمر يمر هكذا بدون إحداث تغييرات من شأنها أن تمنع حدوث نفس المشكلة مرة أخرى. وبناء على هذه النتائج تم الأمر بتعديل بروتوكول الخروج (خروج المرضى من المستشفى) بحيث لا يمكن لأي مريض بأن يسلّم وصفة أدوية بدون مراقبة كل طرف تلك الوصفة ومقارنتها بصحيفة العلاج في داخل المستشفى مع توقيع سجل معد لذلك الغرض.
هكذا هم بنقّبون عن أدق التفاصيل، ويبحثون عن كلّ مخطئ ليس بهدف معاقبته أو تحقيره أو إذلاله، وإنّما بهدف إشعار المخطئ بأنّه كان قد أخطأ، وبأنّه يتوجّب عليه عدم تكرار الخطأ، ومن أجل تأكيد ذلك عمليّاً يقومون بتغيير البروتوكول بكامله بسبب خطأ واحد. بهكذا فقط تتقدّم الشعوب، وبهكذا تسير الأمور إلى الأمام.... وجلّ من لا يخطئ.
وبينما أنا كنت متّجهاً نحو المصعد منهياً بذلك يوماً آخر من العمل، لمحت مروحيّة الإسعاف الطائر من النافذة وهي تهبط رويداً على منطقة الهبوط من أمام قسم الإسعاف السريع حاملة على متنها مريضاً أصيب بجلطة مخيّة منذ ما يقارب من 80 دقيقة بهدف الإستعجال بالمريض لإستلام الحقنة المذيبة للجلطة في الوقت المناسب (أقل من 3 ساعات)، وقلت حينها بأن هؤلاء البشر يبحثون بالفعل عن الحياة ويكرهون الموت.... فطوبى لهم.
ملاحظة: حاولت أخذ صورة للمروحية وهي تشرع في الهبوط، لكنّها كانت أسرع منّي فهبطت قبل أن أصوّرها !. صوّرتها وأنا في طريقي نحو محطة السيارات لأخذ سيارتي والذهاب إلى البيت.... طابت ليلتكم، وآسف على الإطالة!!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق