عن العرب اللندنيّة للكاتب المغربي "سعيد ناشيد"
لقد قرأت هذا الإختيار الجميل على صفحة الدكتور محمّد الراعي، والذي كثيراً ما يبدعنا بإختياراته الرائعة والتي تعكس رحابة ثقافته وسعة إطّلاعه. أدعوكم جميعاً لقراءة هذا الموضوع من البداية للنهاية لأنّني بصدق وجدّته رائعاً وشجاعاً وفي الصميم.
وأنا أعيد نشره هنا لتعميم الفائدة، وربّما هي محاولة منّي لتصحية من مازال يسبح على بساط الريح وهو يظن بأنّه أسعد إنسان على وجه الأرض.
صدى بوح بلا أصداء
هل هناك نوم أعمق من هذا السبات الذي غرقنا فيه منذ أن سلمنا عقولنا للعنعنة، ثم قلنا لا اجتهاد مع 'النص'، بل قصدنا القول لا اجتهاد في 'النص' ذاته؟ هل هناك بعد هذه الغيبوبة العميقة من أفق غير الموت الزؤام؟.
ليس سهلا العثور على نقطة بدء مقنعة لكي نخوض في غمار بوح متفجر كهذا البوح، بوح يندرج ضمن أكثر مواضيع الوقت حرقة وحساسية: الهوية الدينية. لا سيما وأن المقصود تحديداً هو الكلام عن الإسلام. لكن، من يدري؟ قد تكون كل النقط بهذا الصدد صالحة لأن تقوم مقام نقطة البدء، طالما مساحة الورشة فسيحة، ونحن لم نبدأ العمل بعد، بل لا يزال بدء الأشغال بعيد المنال، ودونه وساوس وهواجس وأوهام. ثمة إجراء ممكن الآن، أن نعتبر هذا البوح مجرد لحظة من صدى صوت متردد منذ أمد طويل، صوت يأتي خافتا أحيانا، يأتي ساكتا أحيانا، ونريد أن نجعله مدويا الآن، أو هذا هو المأمول.
كثيرا ما نسمع الكلام عن مسألة “الخروج الآمن”. هذا في المسائل العسكرية أو شبه العسكرية. لكننا لا نسمع أي كلام عن مسألة “الدخول الآمن”. والحال أن الدخول أحيانا يجب أن يكون آمنا، لا سيما حين يتعلق الأمر بالدّخول إلى حقل من الألغام. التفكير في الهوية الدينية هو دخول إلى حقل ألغام. لغاية التقليص من حجم المجازفة، يمكننا التقليص أيضا من حجم التفكير نفسه، ولو لبعض الوقت. لكن، هل سنعطل عقولنا أكثر مما هي معطلة؟ هل نشلها أكثر مما هي مشلولة؟ هل هناك نوم أعمق من هذا السبات الذي غرقنا فيه منذ أن سلمنا عقولنا للعنعنة، ثم قلنا لا اجتهاد مع “النص”، بل قصدنا القول لا اجتهاد في “النص” ؟ هل هناك بعد هذه الغيبوبة من أفق غير الموت الزؤام؟.
كلا، كل ما سنفعله الآن أننا سنُغلّب طابع البوح الوجداني بادئ الأمر، وبعد ذلك سنكتشف معطى قد لا يكون في الحسبان: إن الكلمات النابعة من الوجدان الصادق لقادرة على أن تفرض احترام العقل منذ الوهلة الأولى. يكفي الصدق العميق مع الذات أوّلاً.
حتى لا نطيل التردّد دعنا نقترح صياغة سؤالين، هما من باب محاورة النفس أوّلا، ومن باب دخول آمن إلى الموضوع ثانياً.
السؤال الأول، هل في التديّن ما يستدعي التباهي؟ بالكلام الفصيح واللفظ الصريح، أن أكون مسلماً متديناً لا يعني بالضرورة أن أبدو للناس مسلماً متديناً، أو أظهر أمامهم بذلك المظهر عن قصد وتقصُّد. أن أكون مسلماً متدينا لا يعني بالضرورة أن أصرّ على الظهور أمام الملأ الذين ينظرون، بمظهر المسلم المتدين، فأكشف لهم عن علامات التدين في مظهري ومخبري، والتي يعرف القاصي والداني أنها مجرد مواضعات قد تتبدل، وموضات قد تتحول. أن أكون مسلما متدينا بالفعل لا يعني أن أشهر تديّني في وجوه الآخرين، عابرين وسائرين ومسافرين، كما لو أني أشهر سيفا للمبارزة والقتال والمزايدة والنزال. هذا البوح بسيط إلى حد البداهة المنسية، لكنه، للحقيقة والإنصاف، أشبه ما يكون بقاعدة عامة تصدق على كل مناحي الحياة، أو هكذا يُفترض. مثلاً، أن أكون مثقفاً لا يعني بالضرورة أن أبدو أمام الناس مثقفاً، أن أكون سعيداً لا يعني بالضرورة أن أبدو أمام الناس سعيداً، وهكذا دواليك، عموماً أن أجعل الأمور تبدو على هذا النحو أو ذاك، لغايات ترويجية أو دعائية أو عاطفية، أو لمجرّد هواجس نفسية، لا يعني أن الأمور على ذلك النحو بالتمام. بل قد يكون الإصرار على الظهور بمظهر معين مجرّد تعويض عن عقدة نقص ذات صلة بالموضوع. فأنت مثلاً لن تقرأ عبارة “موسيقار وأفتخر”، أو “عالم رياضيات وأفتخر”، أو “إنسان وأفتخر”، لكنك تقرأ نفس عبارات الافتخار مرتبطة بما يشبه “الهوية المخدوشة”، من قبيل: “مسلم وأفتخر”. أن أكون مسلما متدينا فهذا حق قد أمارسه بتواضع إيماني هادئ. إذ أنه لا يمنحني أي ميزة أو مزية أو تميّز. هنا بالذات، لا شيء يستدعي التباهي، لا شيء يستدعي التفاخر. وهذا مجمل جوابنا عن المسألة.
الآن، السؤال الثاني، ما معنى أن أكون مسلماً متدينا اليوم؟ أن أكون مسلماً متديناً لا يعني بالضرورة أن أُعربد على قارعة التاريخ، وأحترف مهاجمة كل ما هو إنساني في الإنسان: العقل والمرأة والحياة والجسد والحواس والأقليات والحب والفن والفلسفة والآثار والموسيقى والثقافة والمتاحف والتنورة والأضرحة، وتقريباً كل شيء، بل كل شيء على وجه التحديد، حتى الحمير والكلاب ولعبة البوكيمون لم تسلم من لعنتي.. حتى بعض الأشياء التي تخص خاتم النبيئين والتي يُفترض أنها تراث إنساني، لم تسلم من التدمير درءاً للشرك كما قيل. ثم أني قد أمضي بعيداً.. حتى الطرقات لا أتورع عن قطعها للصلاة، فأبدو في البعض من شوارع أمستردام أو لندن كأني مجند في استعراض جماعي قعوداً وسجوداً و”صفّا صفّا” كالبنيان المرصوص، وحين أثير المخاوف لدى الغير أصيح “إنّهم يكرهوننا؟”، حتى المرضى والعجزة لا أكف عن إزعاجهم بمكبرات الصوت منذ تهاليل الفجر إلى تراويح ما بعد العشاء، بلا دليل يُذكر ولا حجة من سنّة أو كتاب.. حتى أهلي أنغص عليهم عيشهم وأتسلط على رقابهم صوناً لعرض موشوم بين فخذي إناث العشيرة والقطيع..
بمعزل عن أجواء العربدة الدينية، والعويل الانفعالي، ووساوس الفحولة البدائية، والحقد الناجم عن عقدة النقص، والتهييج الغوغائي الذي يمارسه شيوخ الدين، هناك فرصة لكي أكون مسلما متدينا وعاقلا في نفس الآن:
أن أستعمل عقلي بكل شجاعة، أستعمله في كل المسائل والمشاكل والتفاصيل، بلا خوف من أي شيء وعلى أي شيء.. بهذا النحو سيكون ديننا بخير، وسنكون بدورنا بخير.
هل هناك نوم أعمق من هذا السبات الذي غرقنا فيه منذ أن سلمنا عقولنا للعنعنة، ثم قلنا لا اجتهاد مع 'النص'، بل قصدنا القول لا اجتهاد في 'النص' ذاته؟ هل هناك بعد هذه الغيبوبة العميقة من أفق غير الموت الزؤام؟.
ليس سهلا العثور على نقطة بدء مقنعة لكي نخوض في غمار بوح متفجر كهذا البوح، بوح يندرج ضمن أكثر مواضيع الوقت حرقة وحساسية: الهوية الدينية. لا سيما وأن المقصود تحديداً هو الكلام عن الإسلام. لكن، من يدري؟ قد تكون كل النقط بهذا الصدد صالحة لأن تقوم مقام نقطة البدء، طالما مساحة الورشة فسيحة، ونحن لم نبدأ العمل بعد، بل لا يزال بدء الأشغال بعيد المنال، ودونه وساوس وهواجس وأوهام. ثمة إجراء ممكن الآن، أن نعتبر هذا البوح مجرد لحظة من صدى صوت متردد منذ أمد طويل، صوت يأتي خافتا أحيانا، يأتي ساكتا أحيانا، ونريد أن نجعله مدويا الآن، أو هذا هو المأمول.
كثيرا ما نسمع الكلام عن مسألة “الخروج الآمن”. هذا في المسائل العسكرية أو شبه العسكرية. لكننا لا نسمع أي كلام عن مسألة “الدخول الآمن”. والحال أن الدخول أحيانا يجب أن يكون آمنا، لا سيما حين يتعلق الأمر بالدّخول إلى حقل من الألغام. التفكير في الهوية الدينية هو دخول إلى حقل ألغام. لغاية التقليص من حجم المجازفة، يمكننا التقليص أيضا من حجم التفكير نفسه، ولو لبعض الوقت. لكن، هل سنعطل عقولنا أكثر مما هي معطلة؟ هل نشلها أكثر مما هي مشلولة؟ هل هناك نوم أعمق من هذا السبات الذي غرقنا فيه منذ أن سلمنا عقولنا للعنعنة، ثم قلنا لا اجتهاد مع “النص”، بل قصدنا القول لا اجتهاد في “النص” ؟ هل هناك بعد هذه الغيبوبة من أفق غير الموت الزؤام؟.
كلا، كل ما سنفعله الآن أننا سنُغلّب طابع البوح الوجداني بادئ الأمر، وبعد ذلك سنكتشف معطى قد لا يكون في الحسبان: إن الكلمات النابعة من الوجدان الصادق لقادرة على أن تفرض احترام العقل منذ الوهلة الأولى. يكفي الصدق العميق مع الذات أوّلاً.
حتى لا نطيل التردّد دعنا نقترح صياغة سؤالين، هما من باب محاورة النفس أوّلا، ومن باب دخول آمن إلى الموضوع ثانياً.
السؤال الأول، هل في التديّن ما يستدعي التباهي؟ بالكلام الفصيح واللفظ الصريح، أن أكون مسلماً متديناً لا يعني بالضرورة أن أبدو للناس مسلماً متديناً، أو أظهر أمامهم بذلك المظهر عن قصد وتقصُّد. أن أكون مسلماً متدينا لا يعني بالضرورة أن أصرّ على الظهور أمام الملأ الذين ينظرون، بمظهر المسلم المتدين، فأكشف لهم عن علامات التدين في مظهري ومخبري، والتي يعرف القاصي والداني أنها مجرد مواضعات قد تتبدل، وموضات قد تتحول. أن أكون مسلما متدينا بالفعل لا يعني أن أشهر تديّني في وجوه الآخرين، عابرين وسائرين ومسافرين، كما لو أني أشهر سيفا للمبارزة والقتال والمزايدة والنزال. هذا البوح بسيط إلى حد البداهة المنسية، لكنه، للحقيقة والإنصاف، أشبه ما يكون بقاعدة عامة تصدق على كل مناحي الحياة، أو هكذا يُفترض. مثلاً، أن أكون مثقفاً لا يعني بالضرورة أن أبدو أمام الناس مثقفاً، أن أكون سعيداً لا يعني بالضرورة أن أبدو أمام الناس سعيداً، وهكذا دواليك، عموماً أن أجعل الأمور تبدو على هذا النحو أو ذاك، لغايات ترويجية أو دعائية أو عاطفية، أو لمجرّد هواجس نفسية، لا يعني أن الأمور على ذلك النحو بالتمام. بل قد يكون الإصرار على الظهور بمظهر معين مجرّد تعويض عن عقدة نقص ذات صلة بالموضوع. فأنت مثلاً لن تقرأ عبارة “موسيقار وأفتخر”، أو “عالم رياضيات وأفتخر”، أو “إنسان وأفتخر”، لكنك تقرأ نفس عبارات الافتخار مرتبطة بما يشبه “الهوية المخدوشة”، من قبيل: “مسلم وأفتخر”. أن أكون مسلما متدينا فهذا حق قد أمارسه بتواضع إيماني هادئ. إذ أنه لا يمنحني أي ميزة أو مزية أو تميّز. هنا بالذات، لا شيء يستدعي التباهي، لا شيء يستدعي التفاخر. وهذا مجمل جوابنا عن المسألة.
الآن، السؤال الثاني، ما معنى أن أكون مسلماً متدينا اليوم؟ أن أكون مسلماً متديناً لا يعني بالضرورة أن أُعربد على قارعة التاريخ، وأحترف مهاجمة كل ما هو إنساني في الإنسان: العقل والمرأة والحياة والجسد والحواس والأقليات والحب والفن والفلسفة والآثار والموسيقى والثقافة والمتاحف والتنورة والأضرحة، وتقريباً كل شيء، بل كل شيء على وجه التحديد، حتى الحمير والكلاب ولعبة البوكيمون لم تسلم من لعنتي.. حتى بعض الأشياء التي تخص خاتم النبيئين والتي يُفترض أنها تراث إنساني، لم تسلم من التدمير درءاً للشرك كما قيل. ثم أني قد أمضي بعيداً.. حتى الطرقات لا أتورع عن قطعها للصلاة، فأبدو في البعض من شوارع أمستردام أو لندن كأني مجند في استعراض جماعي قعوداً وسجوداً و”صفّا صفّا” كالبنيان المرصوص، وحين أثير المخاوف لدى الغير أصيح “إنّهم يكرهوننا؟”، حتى المرضى والعجزة لا أكف عن إزعاجهم بمكبرات الصوت منذ تهاليل الفجر إلى تراويح ما بعد العشاء، بلا دليل يُذكر ولا حجة من سنّة أو كتاب.. حتى أهلي أنغص عليهم عيشهم وأتسلط على رقابهم صوناً لعرض موشوم بين فخذي إناث العشيرة والقطيع..
بمعزل عن أجواء العربدة الدينية، والعويل الانفعالي، ووساوس الفحولة البدائية، والحقد الناجم عن عقدة النقص، والتهييج الغوغائي الذي يمارسه شيوخ الدين، هناك فرصة لكي أكون مسلما متدينا وعاقلا في نفس الآن:
أن أستعمل عقلي بكل شجاعة، أستعمله في كل المسائل والمشاكل والتفاصيل، بلا خوف من أي شيء وعلى أي شيء.. بهذا النحو سيكون ديننا بخير، وسنكون بدورنا بخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق