Translate

السبت، 12 يناير 2019

الطموح والرضا والسعادة

 للكاتب الليبي المبدع: محمّد الطيّاري
يدور بيني وبين ابني نزار كل صباح حديث مفتوح يستغرق من عشر إلى عشرين دقيقة أو نحو ذلك من الوقت، نتطرق فيه لمواضيع شتى عائلية وحياتية وفكرية، ولا يخلو في بعض الإحيان من الفكاهة التي غالبا ما يقتصر دوري فيها على الإصغاء والإبتسام.

ونزار قارئ متلهف لكتابات المشاهير في مجالي ريادة الإعمال والدراسات الإستشرافية، ومتابع مستمر لأحدث ما ينشرونه في مواقعهم وعلى اليوتيوب وغيرها من منصات التواصل. وهو لا يقتصر على الإطلاع والمتابعة، بل يستنتج العبر والعظات مما يقرأ ويشاهد ويسمع، ويستوحي من ذلك الأفكار والمشاريع، ويجرب الطرق والأساليب. كما أنه يعمل بما يخلصون إليه من نتائج وما يوردونه من توصيات، طالما اقتنع بوجاهتها، واستشعر أهميتها، وأمكنه الإستفادة منها.

من ذلك مثلا أنه لاحظ من خلال متابعته لهؤلاء المشاهير الدور المتصاعد للمعلوماتية في حياتنا المعاصرة، وتزايد المبتكرات والمخترعات الحديثة التي تعتمد على تقنية المعلومات والذكاء الإصطناعي، والمنافسة الشرسة بين الدول في هذا المجال، حتى أن الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة البريطانية أقدمتا على إدخال برمجة الحواسيب ضمن مناهج المراحل الأولى للتعليم ببلديهما. واستنتج من الدراسات والمقالات الإستشرافية أن المعلوماتية ستزداد تطورا، وأن الإعتماد عليها في مختلف جوانب الحياة سيزداد تغلغلا وانتشارا، وأن سوقها ستزداد رواجا وتنوعا واتساعا، وأن المنافسة بين المشتغلين بها حول العالم ستزداد شراسة واستماتة. فبادر منذ ما يزيد عن عامين للانخراط في مشروع ملأه سعادة ورضا وارتياحا، إذ أنشأ أول مدرسة لتعليم النشء في بلادنا من سن الخامسة إلى السادسة عشر برمجة الحواسيب، وتعريفهم بتقنياتها، وتنمية مهاراتهم فيها أسوة بنظرائهم في الدول المتقدمة، سماها Tech Track.

وكان هدفه من إنشاء هذه المدرسة هو المساهمة في جعل الجيل الجديد يتعلق بهذا المجال الواعد منذ طفولته، ويسعى للتعرف عليه والتألق فيه منذ نعومة أظفاره. أما غايته منها فكانت مد هذا الجيل بالسلاح الذي يمكنه من خوض معركة الحسم في هذا المجال عندما يشب ويكبر ، إذ أن مجال المعلوماتية سيهيمن على الحياة العملية في عصره، ومن المهم جعله يدخل تلك المعركة بمعرفة متمكنة ومهارة متأصلة يستطيع بها أن ينافس عن جدارة نظراءه من مختلف دول العالم على فرص العمل التي سيتلهف عليها الجميع، وذلك لأن الدراسات الإستشرافية تقول أن الأجيال القادمة ستعيش في سوق مكتظة تعجُّ بالمنافسين المستميتين الباحثين عن فرص العمل في هذا المجال أينما وجدت، وستجاهد وتجهد في عالم تسوده عولمة شرسة تزحف حثيثا باحثة عن الضعاف المتخلفين لتدوس عليهم وتطحنهم في عقر دارهم.

أما في حديثنا اليوم، فقد تطرق نزار للعلاقة بين الطموح والسعادة، وكيف أن الطموح المبالغ فيه قد يجلب الكآبة بدل السعادة، ومثَّل لذلك بما حدث لمبرمج الحاسوب المستثمر الدانيمركي دافيد هاينماير هانسون، المخترع للمنصة الإطارية الشهيرة لتطوير برامج الويب المسماة "روبي أون ريلز"، إذ أن هذا المبرمج المليونير من أبطال سباق السيارات المسمى "لومان 24" إذا لم تخني الترجمة، وهو من أقدم وأشهر وأشرس سباقات التحمُّل في العالم، حيث يجري التسابق فيه على مزيج من الطرق العامة المغلقة والمسارات المخصصة للسباق، ويجب على السابقين فيه الموازنة بين متطلبات السرعة، وقدرة السيارة على العمل لمدة 24 ساعة دون أي عطل ميكانيكي. وهذا ليس بالأمر الهين، ففي السنة المنصرمة 2018 مثلا إستطاعت 41 سيارة فقط العمل بكامل طاقتها من أصل 60 سيارة شاركت في السباق.

قال نزار: أنه استمع لمقابلة مسجلة طويلة مع ديفد هاينمار هانسون، صرح فيها أنه عندما اشترك في هذا السباق لأول مرة كان منتهى طموحه ألا يضطر إلى الانسحاب قبل الأوان، ولذلك فقد شعر بسعادة غامرة وفرح لا يوصف عندما نجح في إكمال السباق دون أن ينسحب منه، في حين أنه في السنة التي تلتها، ورغم أنه فاز بالمرتبة الثانية بين المتسابقين، انتابته كآبة وحزن شديدان. وذلك لأنه جعل هدفه الفوز بالمرتبة الأولى لكن الحظ لم يحالفه. فانظر كيف أن الشخص نفسه شعر بتلك السعادة الغامرة لمجرد إكماله السباق، في حين أن تحقيقه لذلك الفوز الكبير، وقفزه تلك القفزة الواسعة، وانتقاله سريعا ومباشرة، من مجرد إكمال السباق، إلى الفوز بالمرتبة الثانية، أدى به للكآبة بدل أن يضاعف سعادته.

يقول نزار أن سعادة الإنسان بما يحققه من إنجازات رهنا بطموحاته، ولذلك فإنه على الإنسان أن يوازن بين قدراته وطموحاته لتكون طموحاته قابلة للتحقيق. ويقول: أن على الإنسان أن يأخذ في حساباته أيضا المتغيرات التي لا سيطرة له عليها، وتلك الخارجة عن مستوى إدراكه كبشر والتي نسميها نحن المؤمنون القدر، وأن يدرك دورها في تقرير النتائج ويقبل به. ويقول: إن الله عز وجل، عندما يذِّكر الناس في كتابه الكريم بواجب شكره على نعمه التي ينعم بها عليهم حتى الإعتيادي منها كنعمة الحياة، فهو جل شأنه لا يطلب شيئا لنفسه، لأنه غني عن عباده وهم الفقراء إليه، ولكنه يريد من الناس أن يعتادوا الرضا، وأن يتحلوا بنفوس رضية، لتتحقق لهم السعادة.

اللهم اجعلنا وإياكم من أصحاب النفوس الرضية.
جمعتكم مباركة إن شاء الله
محمد الطياري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق