Translate

الأحد، 27 أبريل 2014

عدّونا الجهل يا أمة " أقراء" التي لا تقراء

قرأت لكم... للدكتور سالم الهمّالي

 الغريب أن يستغرب الناس من ما نراه الآن من وَهنْ في الحكومة ومؤسساتها، والمؤتمر وكوادره ويتبعهما كل الشأن الليبي، الذي يعتريه الخلل في معظم مناحيه. وكأن كل هذه السنين التي شهدنا فيها تصحر حقيقي للمعرفة وانهيار للمؤسسات التعليمية والمراكز الثقافية، كان سينتج عنها غير ما نراه من اضطراب المفاهيم، وبروز الفكر الجاهلي بمعناه الحقيقي الذي يرجع بالمجتمع الى نفس الحقبة الزمنية والتعامل بمصطلحاتها. ولولا الجهود الفردية للبعض في فترة التيه التي استمرت لعقود، وما تحملوه من حملهم لشعلة المعرفة والثقافة، لكانت ليبيا اقرب الى الوصف بالعقم، ولكن بمثابرة اولائك الذين عملوا في الهامش البسيط والمتاح استطاعوا ان يسهموا في الإبقاء على البذرة الخيرة، لعل الله يجعل لها من ينميها.
أين نحن اليوم من لغة الحرف والقلم والكتاب؟. ونحن ندّعي اننا أمة الاسلام والتي تؤمن بالقرآن الذي نُزّل لنا دستورا ومنهج. بدأت الرسالة والوحي على نبينا محمد صَلِّ الله عليه وسلم بقول الله تعالى " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ". هذه الآيات تأمر بالقراءة والكتابة والتعلم من علم الله في الكون، ومحاربة الجهل والتخلف. هو الانسان المخلوق والمستخلف على عمارة الارض بأمر ربه وخالقه، والمأمور بالنفاذ من أقطاب السموات والأرض بسلطان العلم والمعرفة. والحال كذلك، كان حري بالمسلمين والعرب خصوصا ان يسلكوا أبواب العلم كعبادة لله الذي أمرهم بذلك في أمور دينهم ودنياهم، ولكن الواقع يشير الى اننا في مؤخرة ركب الحضارة، بابتعادنا عن فهم رسالة الاسلام التي نؤمن بها قولا، والكثير منا يجهل معناها الحقيقي.
دع عنك المليون حافظ، والعشرون جامعة، والقضاء على الأمية، وكل الأوهام التي ننشرها لتدغدغ مشاعرنا، وتوهمنا بالنمو والتطور على سلم المعرفة والحضارة. الحقيقة المرة هي غير ذلك بكثير، حفظ بلا فقه لأول خمسة آيات نزلت، وهياكل لجامعات لا تليق بمدارس تعليم محو الأمية، وعدد كبير من مخرجات التعليم لن يستطيعوا ان يجتازوا الامتحان في قطعة إملاء، فما بالك بفهم الدروس وكتابة البحوث والإسهام في دفع عجلة التنمية المتوقفة منذ عقود. الحقيقة هي الغش المستشري في المرافق التعليمية، وتعدي المراحل بدون دراسة واجتيازها بدون أختبارات فعلية، حتى وصل بنا الحال في عام من الأعوام، ان كان عدد طلبة الطب في سنة واحدة في احدى كليات الطب في ليبيا والتي تفوق العشرة، بلغ خمسة الآلاف، بما يفوق العدد الكلي لطلبة الطب في ذاك العام في بريطانيا التي يفوق عدد سكانها الستون مليون!
ومن علامات استفحال الحالة المرضية المعرفية والاجتماعية التي نعيشها، هو ان من يعارض بناء الدولة وانعاشها من غيبوبتها، يركب سيارة دفع رباعي ويرفع مدفع ويحمل نقال، لم يصنع منهن شيء ويسعى الى انتاج كيان خارج من التاريخ ولا تقبله الجغرافيا. وهو يجهل ولا يعلم ان سيارته مرصودة ومدفعه يضرب في هدفهم الذي خططوا له وكلامه مسجل عندهم؟!
عدونا هو الجهل، ومعركتنا مع التخلف الذي يعشش في عقولنا. وما كتبه ابن خلدون قبل قرون يصف حالنا اليوم، وما أستنتجه على الوردي قبل عقود هو الخلل الذي نعاني منه. صراع البداوة والمدنية هو الذي يجب ان ندرسه، لانه الأقرب للتعبير عن المجتمع الليبي وتركيبته.
نعم نحن من أمة عظيمة حباها الله بالقرآن، وفيه علم كل شيء ولكن نحن نردده والأغلب منا لا يفقه منه غير تلاوة الآيات ويجهل فهم تفاسيرها، وهي التي تحض وتدعو الى استخدام العقل والتفكر في هذا الكون الواسع. ولو قرأناه بتفكر لعرفنا ان العمل واتقانه والإخلاص فيه من الإيمان، فكيف يستقيم ذلك ونحن نرى التسيب والغياب عن أماكن العمل عرف بين الناس، يفعلونه ولا يتحرجون منه؟!. وظاهرة الغش في الامتحانات يقوم بها من يدرس الحديث النبوي " من غشنا فليس منا". اما كبيرة الكبائر بعد الشرك بالله وهي القتل العمد، فحدث بلا حرج وكأننا لم نقراء قول الله تعالى " وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا". وللتدليل على عميق جهلنا، نقتل بعضنا على غير بينة، وندّعي الشهادة ونعجز ان ندرك ان من قتلوا في احدى جولات الاقتتال بين المسلمين في مدينة سبها فاق المئة والخمسين، في حين ان الجيش الانجليزي الذي يستعمل العلم ويأخذ بالأسباب فقد مئة وتسع وسبعون جنديا فقط خلال سبع سنوات من استعماره للعراق!!.
هجرنا للحرف والقلم والكتاب هو بيت الداء وسبب البلاء، والنتيجة هي ما نراه من انتشار ثقافة الإشاعة والترجيف، التي تذكي نار الفتنة والاختلاف. ولو قدر لك ان تزور مطار طرابلس مثلا في يوم وهو مزدحم بالآلاف من الركاب، ربما ستعجز عن مقابلة شخصا واحدا يقراء كتابا او جريدة لتمضية الوقت وهو ينتظر إقلاع طائرته. وبنظرة فاحصة لما تنقله شاشات القنوات الفضائية من داخل المؤتمر الوطني وهم يناقشون الميزانيات والقوانين شفاهة بالقليل من الأوراق او المذكرات، تعي عمق الأزمة التي نعيشها في قمة هرم السلطة، والتي في حقيقتها تعكس الواقع الذي خرجت منه. والطامة الكبرى هي وسائل الاعلام المرئي وقنواته التي انتهجت البرامج الحوارية او التهريجية احيانا، بلا اثر لمعلومة موثقة او استدلال بكتاب او عمل منتج ومعد.
هذه الأزمة الحقيقية التي نعاني منها، هي ما أنتجت التخبط الذي نعيشه، وزادت من انتشار الاهتمام بالبرامج التي تدغدغ الغرائز من العلاقات الجنسية والحيض والنفاس وزيادة الخصوبة، وأهملت الركن الأساس للحضارة والتنمية الشاملة، وهي المعارف التي تحملها بطون الكتب في شتى فروع المعرفة.
وعليه فلابد لنا من وقفة جادة لمعالجة الخلل الذي يهدد حاضرنا ومستقبلنا، بالاهتمام بالمعرفة ( الحرف والقلم والكتاب) في مراحل التعليم الاولى، وإعادة صياغتها بما يحقق الوعي الحقيقي للجيل الجديد، تشجع على استخدام العقل والتفكر والتجربة العلمية لتطوير المعارف ابتدأ من البيت الى المدرسة الى المعهد او الجامعة، مصحوبا بالمكتبة والشارع ووسائط التواصل الحديثة. هذه الخطوات هي ما يساعد على تغيير ثقافة البداوة التي تعم المجتمع الليبي وتنقله الى الحضارة والمدنية التي ينشدها.
سبق النشر بجريدة "وطني"، ليوم الأحد ٢٧/ ابريل/ ٢٠١٤
Like ·  · 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق