Translate

الخميس، 28 يناير 2016

عندما نراقب الآخرين نكتشف عيوبهم !


 كان هذا الصباح جميلاً ومشمساً وبسماء زرقاء نقيّة ونظيفة. قلت في نفسي وأنا أقود سيّارتي نحو المستشفى: دعني أوقف السيّارة هذا اليوم في محطّة الوقوف التي تقع في المدخل الخارجي لمجمّع المستشفيات الأربعة(جامعي، نساء وولادة، ميريدان الخصوصي، ومركز كالودان للأمراض النفسيّة) والذي يبعد مسافة حوالي نصف كيلومتر عن مدخل المستشفى الجامعي، فلعلّي أستمتع بمشي رياضي أستعيد من خلاله الكثير من حيّويتي ونشاطي الجسماني لكل اليوم !.
تركت السيّارة في المحطّة وشرعت في المشي المريح والمتروّي وأنا أنظر إلى السماء فأمتّع ناظريّ بجمالها وبرحابها الواسعة التي تفتح الأفق شاسعاً ممّا يغني أخيلة التصوّر عندي فأستلهم من ذلك ربّما بعض الأفكار الجديدة أو ربّما بعض المفاهيم النادرة(الغريبة) للحياة ومجرياتها.
نظرت حولي فوجدت الناس يجرون إلى أعمالهم بشكل يجذب الإهتمام. نعم... كل الذين أراهم حولي هم عمّال وموّظفين وأطباء وأخصائيين يشتغلون في المستشفى وأنا أراهم يسرعون كل إلى عمله وكأنّ هذا المستشفى قد أصبح ملك أبيه أو جزء من شركاته الخصوصيّة. نعم... إنّهم يسرعون الخطى من أجل اللحاق بالشغل والبدء فيه بذلك الحماس وبتلك الرغبة الأكيدة ممّا جعلني أفكّر في طبيعة وطينة هؤلاء البشر. يتسارعون من أجل هيئة حكومية تدفع لهم أجراً لما يقدّمونه لها من أعمال، وهي بكل تأكيد (المستشفى وتوابعه) ما هي إلّا إنتماء للحكومة وكل من هؤلاء الموظّفين إنّما هو يشتغل بعقد معها، وما إن ينتهي عقده حتى تستغنى عنه هذه الهيئة(المستشفى) ومن ثمّ يترك بدون عمل ما لم يتدبّر أموره بنفسه، ومع كل هذا أرى البشر وهم يجرون إلى أعمالهم بشكل يثير الإهتمام.
قلت في نفسي وأنا أمشي الهوينى... ذلك هو الإختلاف بيننا وبينهم. هم يحترقون من أجل الوطن، ونحن نحرق الوطن من أجل أنفسنا. كل الذين رأيتهم بجانبي على قارعتي الطريق أو أولئك الذين يسيرون(يجرون) أمامي من رجال ونساء لم يكن بينهم مسلماً واحداً حكماً بالملامح ولون البشرة وطريقة اللباس، ومع هذا هم متفانون في أعمالهم بشكل لا يمكننا نحن المسلمون حتى الحلم بمجاراته أو القيام بمثله. قلت في نفسي: أين هو الدين من هكذا تفاني في العمل، وهكذا رغبة في العطاء، وهكذا حبّاً في تقديم كل شئ من أجل راحة البشر وإسعادهم؟.
المهم أنّني واصلت طريقي ناحية مدخل المستشفى الجامعي وأنا أشعر بإرتياح وإغتباط كبيرين حينما أبصرت مجموعة من العصافير وهي تطير قريباً منّي وتتراقص وتلعب مع بعضها... قلت في نفسي: نعم إنّه الربيع يدقّ على الأبواب، ونعم إنّها هذه العصافير الجميلة تحسّ بدنوّه وبذلك فهي تتهيأ له بالتراقص في رحاب الهواء الفسيح فرحة بيوم مشرق جميل قلّما يحدث مثله في هذا البلد في هذا الشهر وفي هذا المكان. إنّها مشاهد تطرق أبواب السعادة وتشرّع أفاق الأمل وتجدّد بواعث الأحلام في القلوب. إن جمال هذا الصباح لهو خير بلسم لطرد إكتئابات الشتاء - المترسّبة - الذي رغم أنّه يحاول البقاء والمكوث غير أنّه يفعل ذلك على غير إستطباب الطبيعة وعلى غير رضاء الزمن الذي فرض هذا التغيير وفي هذا الوقت. هذا لايعني يقيناً بأن الشتاء سوف يحزم أمتعته ويسافر، لكنّه قد يشعر بأن وجوده بيننا لم يعد يطيقه أحد. فالناس بدأت تتطلّع إلى ومضات الربيع الأولى برغم إحساسهم بأنّ ما يتخفّى تحت جلابيب فبراير وهرك مارس قد يكون الكثير من العواصف والكثير من الأعاصير وربّما الكثير من الثلوج والبرود القارصة.
المهم أنّني واصلت المسير على طريقتي وتركت من يتحمّس للشغل بأن يعبر من على يميني ومن على شمالي، فأنا أعرف بأنّني في العاشرة من هذا الصباح سوف أذهب وطلبتي إلى عنابر التجلّطات المخيّة لإختار لهم حالات مرضيّة إختبرهم عليها فيكون ذلك بمثابة "إختبار تجريبي" .Mock Exam حيث أنّهم يستعدّون الآن للإمتحانات النهائيّة إعتباراً من شهر مارس القادم.
وبينما أنا كنت أقترب من مدخل المستشفى الجامعي فإذا بي أرى مروحيّة الإسعاف الطائر وهي تحوم حول المهبط منتظرة الإشارة لها بالهبوط لإنزال مريض بكل تأكيد هو يعاني من حالة حرجة. الغريب في الأمر أن المروحيّات الطبيّة في هذا المستشفي تصعد وتنزل عشرات المرّات في اليوم، لكنّها في كل صعود أو نزول تحظى بإهتمام منقطع النظير من قبل المارّة ونزلاء المستشفي والعاملين فيه وكأنّها في كل مرّة تكتب صفحة جديدة من صفحات التاريخ.
كانت كل العيون مشدودة إلى السماء وهي تراقب المروحيّة تحوم من فوق رؤوسنا، وحدث أن نال الكابتن إذن الهبوط فشرع فيه بكل حماسة. هنا إنقلبت الدنيا رأساً على عقب..... فتدافع كل رجال الأمن بالمستشفى نحو المعابر وجزر الدوران، وتوزّعوا على كل المنافذ المؤدّية إلى المستشفي الجامعي بالقرب من مدخله الرئيسي حتى ليخال إليك بأن هجوماً من غرباء هو على وشك الحدوث!.
رجال الأمن بالمستشفى عندهم أوامر صارمة بإيقاف كل شئ يتحرّك قبل دخول منطقة الحظر الجوي وهي مساحة دائريّة قد يصل نصف قطرها 100 متر يمنع فيها المرور منعاً تامّاً لكل شئ يتحرّك من بشر وسيارات وعربات نقل وحافلات وكراسي نقّالة وربّما حتى الحشرات الزاحفة لو وقع عليها بصر رجال الآمن!!.
كنت أنا سائراً في طريقي غير عابئ بما يجري بإعتبار أنّني متعوّد على مثل هذه المشاهد، وكنت على وشك العبور حول جزيرة الدوران إلى الجهة الأخرى فإذا برجل الأمن يشير إليّ بألّا أعبر للجهة الأخرى وبأنّه يتوجّب عليّ الإتجاه يميناً بعيداً عن إجواء الهبوط المرسومة. أشرت إليه بأنّني لا أنوي الذهاب في ذلك الإتجاه لكنّني فقط أريد أن أعبر إلى الجانب الآخر من الطريق وبعدها يميناً نحو مدخل المستشفى. قال لي بكل إصرار: عليك أن تغيّر إتجاهك الآن وترجع إلى الوراء لتواصل من هذا المسلك. أحسست بأنّه ربما يفرض عليّ رأيه وبطبيعتي "العنايديّة" فكّرت في المضي قدماً لكنّني ما لبثت أن لمحت الشرارة وهي تنطلق من عينيه والصرامة من نبرة صوته فخفت... تقهقرت... رضخت رغماً عن إرادتي... رضيت بالأمر الواقع لأنّني أعرف صرامة القانون في هذا البلد، وأعرف الصلاحيات الممنوحة لرجال الأمن في هذا المستشفى.
عدت على أعقابي وإنحرفت يميناً في إتجاه مبني العلوم السريرية بعيداً عن مدخل المستشفى وتحمّلت في نفسي مسافة إضافية تداركاً لغضب رجل الأمن الذي إذا غضب فإنّه لا يتردد في إصدار المخالفة المرورية للأفراد.
وبينما أنا سائر في خط سيري الجديد الذي فرض عليّ لاحظت حادثة شدّت إهتمامي وهي ما دفعني لكتابة هذا التعليق لأنّها بالفعل إستحوذت على تفكيري لبرهة من الوقت.
كانت هناك إمرأة في الجانب المقابل خارجة لتوّها من المستشفى وهي تحثّ الخطى غير مكترثة بما يجري حولها آخذة طريقها ربما نحو سيارتها. لم تكن تبالي بكل ما يدور حولها وسارت مسرعة في طريقها بجانب مهبط الطائرة، والطائرة هي الآن تضع قواعدها على أرضية المهبط بعد أن هبطت بسلام وهي تستعد لإخراج ما ببطنها. عبرت المرأة مهبط المروحيّة وكادت أن تصل إلى جزيرة الدوران المقابلة وهنا أبصرها رجل الأمن. أشار إليها بالتوقّف فوراً وهو غاضب منها بشكل يجعلك تشفق عليها من شدة غضبه. جرى إليها وهو يكاد ينهرها وطلب منها العودة الفورية من حيث أتت ومن هناك العبور نحو الجهة المقابلة لتواصل سيرها بآمان. المرأة إعترضت عليه وأشارت إليه بأنّها الآن نجحت في العبور من منطقة هبوط المروحيّة (عبرت منطقة الخطر !) وأشارت إليه بعصبية أن كيف يطلب منها العودة من حيث أتت معرّضة نفسها للمخاطر من جديد !. هنا تنبّه رجل الأمن إلى غبائه وإقتنع بوجهة نظرها، فجرى إليها وطلب منها على الأقل العبور خلال جزيرة الدوران للجهة المقابلة تفادياً للمخاطر التي قد تحدث بعد هبوط المروحيّة (وهي يقيناً سوف لن تحدث!). لم تجد المرأة المسكينة بدّاً من التنازل عن كبريائها - كما فعلت أنا قبلها - فأخضعت نفسها لآوامره آخذة طريقها نحو الجهة البعيدة عن مهبط المروحيّة.
قلت في نفسي: كم هو غريب أمر هذا الشعب. إنّهم يحتاطون من أخطار (نظريّة) قد تعتبرها كل شعوب العالم بأنّها من مخاوف الخيال والإحتياطات المبالغ فيها بشكل جنوني. بمثل هكذا تفكير، وبمثل هكذا إحتياطات مبالغ فيها يعتبر الإنجليز بصدق من أكثر شعوب الأرض أمناً وآماناً في كل مرافق حياتهم، وبذلك فإنّني لن أجد أي تعبير في نفسي غير أن أرفع لهم القبّعة إحتراماً وتقديراً وإعجاباً أيضاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق