الكاتب سالم العوكلي يوجه رسالة مفتوحة إلى فايز السراج
أن تتصدوا لهذه المهمة وسط هذه الفوضى العارمة وفي أحرج الأوقات التي تمر بها ليبيا أحسبه نوعا من الشجاعة التي تصل إلى حد المغامرة، لكن ماذا كان سيحقق الإنسان فوق الأرض لولا حبه للمغامرة، المهم أن تكون المغامرة محسوبة وأن يكون العلم دليلها والإرادة زادها .
حكومتكم جاءت بعد حوار ليبي صعب ، وبرعاية منظمة دولية عادة لا تتدخل إلا بإيعاز من قُربِ حدوث الكارثة، وبنذير من فشل أهل البلاد في الخروج من النفق .. وحدث حيال شخصكم إجماع وطني لم يحدث إلا مع السيد مصطفى عبدالجليل في مرحلة مفارقة من تاريخنا، دعم محلي ودعم دولي حظي به في فترة صعبة، مثلما تحظون بهذين الدعمين المهمين، لكن إدارة هذا الإجماع والتوافق هي المحك الصعب، وهذا ما فشل فيه أخيراً رئيس المجلس الانتقالي حين انفردت بها أجندة فئة سياسية وحادت به عن خارطة الطريق التي رسمها مختصون في إدارة الأزمات .
الأولويات .. إدارة الأزمة ، الجيش والأمن
الحرص على استمرارية هذا التوافق وهذا الإجماع يحتاج إلى توظيف ذكي ونزيه له، عبر نتائج يلمسها المواطن، وعبر ترسيخه ببرنامج واسع ومدروس للمصالحة الوطنية كأولوية في إعادة مفهوم الوطن، لأن لا حكومة بدون وطن له حدود يحميها جيش وطني يتكون فقط من كل من يحملون رقما عسكريا ويخضعون لتراتبية وانضباط المؤسسة، ولا حكومة دون مواطن تحميه مؤسسات أمنية وقضائية منضبطة ومسخرة لتحقيق الأمن والأمان له.
الجيش في ليبيا موجود وجهاز الشرطة أيضا، وإن كانتا تعانيان من ضعف فكل مكونات الدولة تعاني من الضعف نفسه، التعليم والصحة والمواصلات وغيرها.. ولم شتات مئات الألوف من منتسبي المؤسستين، العسكرية والأمنية، المدربين والذين يتقاضون مرتباتهم من واقع انتسابهم الإداري والفني لهاتين المؤسستين، أولوية .. لأنه لا يمكن رفض المؤسسات الأمنية إلا من قبل الخارجين عن القانون والمدافعين عن الجريمة والفساد، وهم قلة لكنهم يتمتعون بنفوذ ودعم داخلي وخارجي.
الجيش في ليبيا موجود وجهاز الشرطة أيضا، وإن كانتا تعانيان من ضعف فكل مكونات الدولة تعاني من الضعف نفسه، التعليم والصحة والمواصلات وغيرها.. ولم شتات مئات الألوف من منتسبي المؤسستين، العسكرية والأمنية، المدربين والذين يتقاضون مرتباتهم من واقع انتسابهم الإداري والفني لهاتين المؤسستين، أولوية .. لأنه لا يمكن رفض المؤسسات الأمنية إلا من قبل الخارجين عن القانون والمدافعين عن الجريمة والفساد، وهم قلة لكنهم يتمتعون بنفوذ ودعم داخلي وخارجي.
لا يمكن لأي رئيس وزراء، أو ما يماثله في السلطة، أن يعمل دون جناحين، والجناحان هما وزارة الدفاع ووزارة الداخلية، وهي أولوية لابد أن تتزامن مع برامج المصالحة الوطنية .. أعرف أن المهمة صعبة وسط هذا التشظي وانتشار السلاح، وأعرف أن الحكومة دون دعم من الشارع والناس ستكون عرجاء، لكن كل هذا يحتاج إلى خطة علمية مدروسة تختار أولوياتها بدقة وآليات الشروع في تنفيذها بشكل مدروس، وهذا ما غاب طيلة السنوات الماضية، ما بعد سقوط النظام، حيث استجابت الحكومات السابقة لضغوط مراكز النفوذ، ولرغبات الميليشيات، وابتعدت عن مطالب الشارع وأولويات المرحلة وأهداف التغيير، فكانت سياسة المسكنات والترضية لهذه المجموعات المتصارعة المسمار الذي بدأ دقه في نعش الدولة .
لا حكومة بدون وطن له حدود يحميها جيش وطني
مثل هذه المراحل تحتاج إلى الحكمة والقوة ، الحكمة تأتي عبر الاستشارة والتخطيط العلمي، والقوة تأتي من حسن إدارة التناقضات وتفعيل القانون ، وطبيعة المهمة التنفيذية تحتاج إلى صرامة وشجاعة في اتخاذ القرار ومتابعة تنفيذه، وصرامة السلطة التنفيذية لا يتعارض مع جوهر الديمقراطية، لأن الديمقراطية ستكون حاضرة في إمكانية مقاضاة هذه السلطة إذا خرجت عن دورها أمام قضاء نزيه، وليست في احتقار المناصب وتفريغها من مهابتها وكيل الشتائم لأصحابها كما يفهمها للأسف الغالبية منا، وكما كرسها النظام السابق الذي حقر من هذه المناصب والمؤسسات تحت شعاراته الشعبوية والجماهيرية. ومن هنا لابد من إعادة الاعتبار للنخبة الوطنية، لأن التاريخ يخبرنا أن النخب هي من قادت الأمم إلى بر الأمان . وحقيقة استغربت في جولاتكم في دول الجوار أن لا تجتمعوا بالمثقفين والكتاب الليبيين النازحين إلى هذه الدول لأنهم عاشوا كل العقود الماضية مهتمين بالشأن الليبي بكل تفاصيله ومنهم من دفع ثمن هذا الاهتمام باهظا.
إعادة الرهبة للقانون ولممثليه وللمناصب الإدارية مهم جدا وهو شأو أكثر الدول تجذرا في الديمقراطية، وغير ذلك سيكون مجرد فوضى وتسيب وفقدان للصلاحيات وبالتالي للمسؤولية، ويفتح طريقا واسعا تجاه استبداد من نوع جديد ترعاه الفوضى وانعدام الاحترام، وكم من دول دفعت ثمن الاستبداد المعكوس المتمثل في احتقار الغوغاء لسلطة المؤسسة ولمن يمثلها، بشكل، وللأسف، كرس الحنين للدولة الدكتاتورية القوية حين يكون البديل دولة ديمقراطية ضعيفة، وبناء الدولة الديمقراطية القوية هو التحدي الصعب، ومحك نجاحنا وضمانة فرض دولة القانون والمؤسسات.
العمل بسرعة على إعادة إنتاج النفط لسابق عهده بشكل يسهم في توفير المال اللازم لبرنامجكم ومهامكم التي تحتاج إلى إمكانات كبيرة كي تشق طريقها، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطن في هذه المرحلة الانتقالية . مع ملاحظة أن هبوط أسعار النفط كانت ستضرب اقتصاد الدولة حتى وإن كانت مستقرة وآمنة، وسيستدعي اتخاذ إجراءات تقشف صارمة مثلما تفعل الآن دول مستقرة وغنية.
من جانب آخر لا يمكن أن تتصدى لإدارة مجتمع، خصوصا إذا كان يمر بأزمة حادة، دون معرفة طبيعته، من تركيبة اجتماعية تغيرت مرارا على مدى العقود السابقة وبشكل أكثر حدية بعد سقوط النظام. معرفة بواقع الأقاليم والجهات التي عبرت عن نفسها بقوة في الفترة الأخيرة لأنها كانت إحدى مكابيت المجتمع القديمة، إضافة إلى الحضور القوي للقبيلة الذي لا يمكن تجاهله، مع ملاحظة أن القبيلة في ليبيا غير مسيسة حتى الآن، رغم محاولات المتاجرة بها سياسيا من قبل تشاركيات حزبية، ليس لها قاعدة أو لديها المقدرة على الحشد، إلا عبر تأجيج النزعة القبلية أو الوجدان الديني مع غياب برامج سياسية وثقافية بديلة.
القبيلة سيكون لها دور مهم في المصالحة الاجتماعية، أما ما يخص المصالحة بين الأطراف السياسية التي تتصارع لأسباب أيديولوجية أو جهوية أو مصالح شخصية لا يمكن التعامل معها إلا عبر وضع الدول الداعمة لهذه الصراعات في الصورة ، وبمزيد من الحوار المدعوم بضغوط المجتمع الدولي كطرف متضرر من عدم الاستقرار في ليبيا .
رغم مطالبة الناس منذ بداية الانتفاضة باللامركزية فإني أرى أن المركزية في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة مهمة من أجل لم شمل الكيان الليبي الذي بدأ على حافة التقسيم تحت رهاب المركزية ومخاوف التهميش. وأعني المركزية الإدارية المتعلقة بصناعة القرار وليست المركزية المكانية، وأهميتها تتمثل في إمكانية التحكم تدريجيا في إعادة السيادة للدولة بعد أن تحولت أرضها ملعبا لقوى العالم الذكية والغبية، وإمكانية متابعة القرارات الصادرة ومراقبة تنفيذها، وفي تحجيم مساحة الفساد أفقيا، وفي خلق مناخ مناسب للسياسة الخارجية المهمة في هذه المرحلة.
المركزية في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة مهمة للم الشمل
أما التهميش الحقيقي الذي يشكل مصدر خوف سينتج عن تفكك الكيان الليبي التي شاءت الظروف التاريخية أن يكون له مصدر دخل وحيد هو الذي وحد أقاليمه منذ نصف قرن . وأطروحة اللامركزية أو غيرها التي يتوافق عليها الناس ستكون الاهتمام الأصيل في الدستور، خصوصا وهي مطلب حضاري يتعلق بالتنمية والإدارة، وفائض عن استقرار سياسي وأمني واجتماعي، ولا يمكن مغازلته والبلد تشهد صراعات مسلحة في كل أقاليمها.
تتطلب هذه المرحلة:
- وضع القوى الإقليمية المتدخلة في ليبيا في قلب الحوار الداخلي لأن تدخلها هو وقود هذا الصراع، مثلما كان يفعل النظام السابق عبر تدخله بالمال والسلاح في صراعات دول أخرى وبالتالي كانت له القدرة على فض تلك النزاعات التي كان يرعاها.
- دعم وتفعيل ديوان المحاسبة وتطعيمه بالخبرات الوطنية، وقد أثبت قدرته على رصد المخالفات والفساد لكنها ظلت على الورق في غياب المؤسسات التنفيذية، وهذا ما يجعل من بناء وزارة داخلية بكل أجهزتها أولوية .
- دعم منصب النائب العام وإبعاده عن كل التجاذبات السياسية.
تأسيس وعاء خبرات للدعم والمشورة خلف الحكومة يتكون من الخبرات الليبية القابعة حتى الآن في الهامش، واضرب مثلا بمركز بحوث جامعة بنغازي الذي يحتوي على بحوث ودراسات واستطلاعات للرأي مهمة لم يلتفت لها أحد حتى الآن، وهو الشأن الذي يعيدنا إلى معرفة الواقع الاجتماعي الذي يتم التعامل معه في هذه الظروف. (مركز البحوث مثالا وليس حصرا) لكن علاقته البحثية بالشأن الليبي وثيقة منذ فترة طويلة.
وأخيرا أشير إلى أن الوعي بالمهمة التاريخية التي تتصدون لها ومن معكم أساسي لأن ما ستفعلونه سيدخلكم للتاريخ في كل الأحول ، سواء من باب المجد أو من باب الفشل الذي دخلت معه الحكومات والسلطات التشريعية السابقة، وهذا الوعي بالتاريخ هو ما ألهم رجالا ونساء عبر التجارب الإنسانية في أن يحرصوا على النجاح وأن يخرجوا بلدانهم من الأنفاق المظلمة . الجغرافيا قد ترحم لكن التاريخ لا يرحم، وصناع التاريخ المشرف لأوطانهم ولهم شخصيا تميزوا بالنزاهة والحكمة والقوة .
أنتم الآن تشكلون أعلى سلطة تنفيذية في بلد دون دستور حتى الآن، وهذا ظرف استثنائي ما كنا نريد المرور به، لكنه يتطلب أن تكون ضمائركم هي الدستور طيلة هذه المرحلة الانتقالية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق