Translate

السبت، 1 أغسطس 2015

تأمّلات جمعاويّة


بينما كنت في طريقي إلى العمل هذا الصباح دارت بخلدي الكثير من الأفكار، وذهب بي خيالي إلى أبعاد سحيقة.
بالطبع إنّ ما يشغلني كثيراً هذه الأيّام - وأنا من يحفل كثيراً بالبحث عن تفسير كل ما أرى وأشاهد وأسمع من باب الفضول، وهي عادة ورثتها منذ الصغر ! - هو تلك الإكتشافات العظيمة في عالم الفضاء، وكيف تمكّنت "ناسا" من سبر تلك الأغوار السحيقة والتعمّق في فضاءاتها البعيدة. بمعنى آخر، تمكّنت "ناسا" بعرباتها وسفنها ومركباتها الفضائيّة من النفاذ من أقطار السموات والأرض ووصلت إلى عوالم لم يبلغها الإنسان من قبل وبأي شكل من أشكال التواصل.... يقول الله تعالى في كتاه العزيز: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ}، وبالطبع يمكنني التوقّف عند هذه الآية والتفكير في "لماذا" ذكر الله الجن قبل الإنس في هذا الإطار؛ لكنّني سوف لن أتوقّف هنا، فلديّ أشياء في عقلي أودّ التباحث معه
 فيها !.

بلغ عدد المجرّات التي إحتسبتها "ناسا" وبقيّة المهتمّين بعلوم وإستكشافات الفضاء ما بين 20 إلى 30 بليون مجرّة، ونحن نعرف بأن كل مجرّة تتكوّن من كواكب ونجوم - أكبرها وأقربها تسمّى شمساً - تعوم كلّها في فضاء بعيد ولا متناهي يسمّى "سماء".
من هذا المنطلق يمكننا القول بأن عدد السماوات قد يصل إلى 30 بليون سماء وربّما مثلها من الكواكب الشبيهة بالأرض تكون بمثابة أراضٍ لتلك المجرّات، وهنا عادت بي الذاكرة إلى قول الله تعالى في القرآن الكريم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، وكذلك قوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقً}، وكذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً}، وقوله: {وَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}... من هنا نلاحظ تكرار عدد السماوات بسبع ليس أكثر.
فكيف يمكن التوفيق بين ما توصّل إليه العلم وما ذكره الله في القرآن الكريم؟. هذا سؤال يجب البحث فيه لا الهروب منه، وإن عجزنا في إيجاد العلاقة بين مفرزات العلم وإفادات الرب فعلينا أن نترك الموضوع مفتوحاً للبحث بدون التسرّع في الحكم لصالح هذا الجانب أو ذلك.

دعونا أوّلاً نحاول التعرّف على "السبعة" العدديّة من حيث أهميتها وتداولها ومدلولاتها؛ فهذا الرقم يبدو أنّه توجد له أهمية وقدسيّة عند الخالق: فهناك بكل تأكيد سبعة أيّام، وسبعة سنابل، وسبعة ألوان للطيف، وفي قصص الأوّلين يقول الله تعالى:{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}، وفي القصص القرآني أيضاً ذكرت السبعة في قوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً}، وعن أبواب الجنّة ورد الرقم سبعة أيضاً في قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ}، وذكرت في القرآن سبعة أبحر: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.... إذا بكل تأكيد بأن لهذا الرقم قدسية معينة عند الرب، ومهما حاولنا البحث فيها أو تفسيرها أو ربطها "بما توصّل إليه العلم !" فإننا يقيناً سوف لن نعرف المدى الحقيقي الكامن وراء ذكر هذا الرقم ومدلولاته عند الله... فلنفكّر ونتصوّر ونتدبّر ونبحث ونجتهد في هذا الرقم، لكن من باب الإنصاف والعدل والإيمان أيضاً... علينا ترك المعنى الحقيقي لله، فنحن لا نعلم تأويل مقاصد الخالق.
عبارة "البحار السبعة" تداولها الإنسان منذ عام 2300 قبل الميلاد حيث وردت في مخطوطات الحضارة السومرية، ثمّ إستمر تداول الناس للبحور السبعة حتى ألصقت بها الكثير من الخرافات والطقوس، وحوّل الناس هذا الرقم إلى ما يشبه العبادة أو التعبّد.
وفي عهد الإسلام لم يخل الأدب العربي والإسلامي من التبرّك بالرقم 7، وكان من بين من كتبوا عن الرقم 7 في القرن التاسع المؤلف والمؤرخ المسلم أبو العباس اليعقوبي حيث كتب:
"من أراد الذهاب إلى الصين في البحر قطع سبعة أبحر، كل واحد له لونه الخاص ورياحه وأسماكه ونسيمه، عكس البحر الذي يليه. فأولها بحر عرب الذي يركب فيه من سيراف، وآخره رأس الجمحة، وهو ضيق فيه مغائص اللؤلؤ. والبحر الثاني الذي مبتدأه من رأس الجمحة يقال له لاروي، وهو بحر عظيم، وفيه جزائر الوقواق، وغيرهم من الزنج، وفي تلك الجزائر ملوك، وإنما يسار في هذا البحر بالنجوم، وله سمك عظيم، وفيه عجائب كثيرة وأمور لا توصف. ثم البحر الثالث الذي يقال له هركند، وفيه جزيرة سرنديب، وفيه الجوهر والياقوت وغيره، ولها جزائر فيها ملوك، ولهم ملك عليهم، وفي جزائر هذا البحر الخيزران والقنا. والبحر الرابع يقال له كلاهبار، وهو بحر قليل الماء، وفيه حيات عظام، وربما ركبت الريح فيه، فقطعت المراكب، وفيه جزائر فيها شجر الكافور. والبحر الخامس يقال له سلاهط، وهو بحر عظيم كثير العجائب. والبحر السادس يقال له كردنج، وهو كثير الأمطار. والبحر السابع يقال له بحر صنجي، ويقال له أيضاً كنجلى، وهو بحر الصين، وإنما يسار فيه بريح الجنوب، حتى يصيروا إلى بحر عذب عليه المسالح والعمران، حتى ينتهوا إلى مدينة خانفو."
في هذا المقال يوضح البحار السبعة المشار إليها في الأدب العربي في القرون الوسطى :
الخليج العربي ("بحر عرب")
خليج كمبات ("بحر لاروي").
خليج البنغال ("بحر هركند").
مضيق ملقة ("بحر كلاهبار").
مضيق سنغافورة ("بحر سلاهط").
خليج تايلند ("بحر كردنج").
بحر الصين الجنوبي ("بحر صنجي").
وتشير البحار السبعة في الأدب الأوروبي في العصور الوسطى إلى البحار التالية:
البحر الأبيض المتوسط، يشمل بحاره الهامشية ولا سيما بحر ايجه.
البحر الأدرياتيكي.
البحر الأسود.
البحر الأحمر، بما في ذلك البحر الميت المغلق وبحيرة طبريا.
بحر العرب (والذي هو جزء من المحيط الهندي)
الخليج العربي.
بحر قزوين.
وعلم الجغرافيا الحديث يحدد المسطّحات المائية (البحار) بمائة مسطّح، ويبلغ عدد المحيطات في العالم خمسة محيطات هي: المحيط الهندي، المحيط الهادي، المحيط الأطلسي، المحيط المتجمّد الشمالي، والمحيط المتجمّد الجنوبي.... مع أن المحيطات في واقع الأمر هي عبارة عن كتلة مائية شاسعة ومتواصلة، ومن ثمّ فهي عبارة عن محيط واحد كبير وعظيم وواسع، وتلك هي نفس التوصيفة للسماوات، فهي سماء واحدة رغم كبرها وظاهرية تعددها.
وعودة إلى عالم المجرّات وعددها حسب أبحاث العلماء (علماء الفلك وليس علماء الدين !)، فربّما تكون أعداد هذه المجرّات بعيدة عن الحصر، وقد نكتشف يوماً ما بأنّنا نعيش في عالم لامتناهي.... ومهما كان من أمر، فهذا هو عالم الله الذي كثيراً ما تحدّى به البشر في الكثير من المواضع منها على سبيل المثال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}.


ومهما يكن من أمر، فأين يأتي التناسق بين ما ذكره الله من سماوات سبع وتوابعها من الأراضي والتي ذكر عددها بعدد السماوات السبع؟. هذا الأمر قد يذهب بنا إلى إلقاء نظرة تدبّر على المجرّات التي تعني سماوات ونجوم وكواكب من بينها الأرض... بمعنى أن لكل مجرّة أرض، وربّما في كل أرض حياة:{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}، وقوله {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}.... ومن فيهنّ، وليس ومن فيها (الأرض).
السؤال الذي سوف يكرّر نفسه في كل مرّة يتم فيها ذكر عدد المجرّات بسماواتها، هو بخصوص الإختلاف في عددها عند الله، وفي عددها عند العلماء.
هناك تفسير آخر ورد بمخيلتي هذا الصباح وأنا أتدبّر خلق الله، وأحاول التوفيق بين علم الله وعلم الإنسان، فحاولت تفسير السماوات بأنّها في واقع الأمر سماء واحدة شاسعة وكبيرة وسحيقة وهي عبارة عن إنعكاس للضوء في الفضاء الفسيح، فلا توجد في الواقع سماء ملموسة ولا توجد طبقات، ومن هنا فالمقصود في القرآن قد لا نفهمه وقد لا نعرف تأويله مهما إجتهدنا، وعلينا الإعتراف بذلك. يقول الله تعالى:{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}.... بمعنى، أن الراسخين في العلم حينما لا يتمكّنوا من تفسير القرآن بما توصّل إليه العلم الحديث عليهم أن يؤمنوا بقناعة مفادها أن تأويل كلام الله لا يعلمه إلّا هو، وعلى من تبحّر في العلم أن يأمن به كما هو بدل الدخول في متاهة التشكيك.... مع أن البحث في عالم الرب مطلوب، ولا مانع في هذا المجال من التشكيك والبحث عن اليقين من خلال ذلك... قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}. هنا نلاحظ كيف أن سيّدنا إبراهيم بعلو قدره وبمكانته عند الله وبقوّة إيمانه... نلاحظ أنّه برغم كل ذلك، إنتابه الشك... حاول توضيح أو تأكيد أو التأكّد من أشياء كانت تدور في خلده. نلاحظ أيضاً أن الرب إستدركه بسرعة وعرف مقصده: "أولم تؤمن".... ويحك ؟!!.
هذه الآية بالتحديد تعطينا الإذن بأن نفكّر في كل شئ، وأن نشكك في كل شئ، وأن نحاول البحث عن برهنة كل شئ. المهم أنّنا في نهاية الأمر ومهما كانت نتائج بحثنا يتوجّب علينا أن نعترف بأن علمنا مهما بلغ من التعمّق فهو متواضع وبسيط وبدأئي قياساً بعلوم مملكة الرب، ومن ثمّ يتوجّب علينا الإعتراف بذلك وتذكير أنفسنا به حتى لايصيبنا الغرور فنتنكّر لما حولنا.... جمعتكم مباركة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق