ذهبت يومي الخميس والجمعة الماضيين لحضور المؤتمر السنوي لشبكة السموم العصبية البريطانيّة British Neurotoxin Network، وكان مؤتمرنا لهذه السنة في جامعة أكسفورد العريقة.
تم تأسيس هذه الشبكة التخصّصية الراقية والتي تتكوّن من أخصائيي الأعصاب الذين يستخدمون البوتيولاينم (بوتوكس وأخواته) في علاج الكثير من الأمراض والعلل العصبيّة التي ولزمن قصير كانت مستعصية عن العلاج... تم تأسيس هذه الشبكة في عام 2012 في مدينة لندن وكنت أنا من بين المشاركين في تأسيسها، ويعتبر هذا هو إجتماعها السادس على التوالي. إجتماع هذه السنة كان مختلفاً عن سابقاته وذلك لحضور عدد من مستشاري الأمراض العصبيّة في عدد من الدول الأوروبية من بينها إيطاليا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وروسيا وتركيا، فكان بذلك هذا المؤتمر أوروبيّاً أكثر من كونه بريطانيّاً، وكان رائعاً بكل المعايير والمقاييس.
سبب دعوة أخصائيين من أوروبا لحضور المؤتمر لهذه السنة هو مرور 30 سنة على إستخدام البوتيولاينم في علاج الأمراض العصبيّة، حيث كان أوّل إستخدام علاجي للبوتيولاينم في عام 1985 حين عولجت حالات التشنّج الجفني (عيون) لأوّل مرّة بالسموم وكانت النتائج باهرة ومفاجئة حتى للمعالجين أنفسهم. بعد ذلك عولجت حالات تشنّج عضلات الوجه Hemifacial spasm، ومن ثمّ أخذت الأبحاث تتواصل بشكل شبه جنوني وذلك بإقحام هذا العلاج في الكثير من الحالات العصبيّة والغير عصبيّة حتى بلغت الحالات التي يتم علاجها اليوم بالبوتيولاينم أكثر من 100 علّة ومرض ومصيبة ربّما كان من بين آخرها علاج مرض الشقيقة أو ما يعرف بالصداع النصفي Migraine. هناك أيضاً إستخدامات أجدد تتعلّق بحالات التريّق والتعرّق والإمساك والآلام المصاحبة لداء السكّري. علينا بألّا ننسى بالطبع إستخدامات هذه السموم في علاج التجاعيد وأنواع لا تحصى من عمليات التجميل.
هذا المؤتمر كان في مدينة أكسفورد المشهورة بجامعتها العريقة وكان في كليّة "ميرتون" لهذه السنة. جامعة أكسفورد هي غنيّة عن التعريف لكنّ مباني هذه الجامعة تعكس تاريخها بكل تفاصيله، ومدينة أكسفورد في حد ذاتها وبكل مبانيها الكثيرة لا تكاد تخرج عن ذلك النمط المعماري الذي يسيطر عليه النسق الكنسي بما يفيد بأن من كان يتحكّم في العلم والتعليم في تلك الفترة التي بنيت فيها جامعة أكسفورد كان الكنيسة ومن خلفها رجال الدين الذين كانوا يسيطرون على كل شئ في حياة البشر قبل ثورة أوروبا على الكنيسة والتحرّر من سطوة رجال الدين الأمر الذي أخرج أوروبا من العصور الوسطى (المظلمة) وأدخلها في عالم الإنطلاق إلى الأمام بعيداً عن نفوذ وسيطرة رجال الكنيسة.
مشيت من محطّة الوصول إلى مكان الكلّية على رجليّ وشاهدت بالفعل عالماً غريباً من الشباب والشابّات من كل أنحاء العالم وهم يجوبون شوارع أكسفورد جيئة وذهاباً وكأنّي بكل طلبة العالم كانوا قد حضروا إلى أكسفورد في هذا اليوم. كل الأشكال والألوان والسنحات البشرية من أفريقيا وأمريكا اللاتينية والصين واليابان وغيرها من بقاع العالم كانت تجوب الشوارع بحثاً عن إشباع غريزة حب الإستطلاع وحب المعرفة وحب التعرّف. لقد أذهلتني تلك الجموع من الشباب والشابّات وكل واحد منهم يكاد لا يرفع عينيه عن هاتفه النقّال الذي يعطيه الإتجاهات بإستخدام خرائط جوجل للوصول إلى الوجهة المقصودة، فمدينة أكسفورد تتميّز بشوارعها الضيّقة وأزقّتها المتشعّبة والمتداخلة بشكل معقّد جدّاً مما يجعل التجوال في شوارعها وأزقّتها من أصعب الأشياء بالنسبة للزائر الذي لا يجد بدّاً من الإستعانة بخرائط جوجل من خلال هاتفه النقّال الذي يوصله إلى حيث يريد بدون أخطاء وبدون الحاجة لإستخدام خرائط سير أو كثرة الإستفسار من المارّة أو كثرة البحث عن الإتجاه الصحيح من خلال مراكز الإرشاد الموجودة في المدينة.
كانت هذه السنة بمثابة مراجعة لفترة زمنية وصلت إلى 30 سنة، وبهذا فقط كانت أغلب المشاركات هي بمثابة مراجعة شاملة لما تم من أبحاث وأعمال مرهقة لعلماء ومفكّرين ومجتهدين وباحثين عن غد أفضل للبشريّة جمعاء عبر تلك العقود الثلاثة المنصرمة مما أعطاني الإحساس بأننا دائماً نحصد ما يزرعه الأخرون وحينما نجمع الثمار كثيراً ما نفرح بتجميعها ونتلذّذ بأكلها لكننا نادراً ما نفكّر في الكيفية أو الآليّة التي وصلت بها إلينا، ومن ذلك الذي النفر من البشر الذين كانوا يسهرون الليالي من أجل إيصالها إلينا وإمتاعنا بها.
وردت بخيالي الكثير من الأفكار والتخيّلات وأنا أستمع إلى آساتذة راقيين جداً وهم يثنون على من سبقهم من العلماء الذين سهروا الليالي من أجل توفير المعلومة والدليل لنا كي نسير عليه ونستفيد منه في معالجة مرضانا وتغذية مداركنا. قمت ببعض الخربشات على ورقة أمامي وأنا أستمع بكل شغف لما سرده أولئك الآساتذة الذين تركوا مراكز أعمالهم وآتوا من أجل أن يفيدونا بعلومهم وبإنطباعاتهم.
كتبت: نحن نحفل بالعطايا ولا نحفل بمن يعطيها لنا. نحن نشتري المنتوجات ولا ندري كيف تم إنتاجها لأنّنا في أغلب الأحيان لا نسأل ولا نسنتفسر وربما لا نجتهد في البحث عمّن صنع لنا أو بحث لنا أو نظّر لنا أو أستنتج لنا. كتبت أيضاً: العالم من حولنا يفكّر ويتدبّر ويبدع ويعتبر ونحن فقط ننتظر ونترقّب فعسى أن تحذف إلينا أشياء قد نستخدمها أو نستفيد منا أو نتمتّع بها ولا نفكّر في أن نقوم نحن بإنتاجها أو الإعداد لها لأنّنا في أغلب الأحيان نفتقد إلى عنصر المبادأة ولا نعرف طريقنا نحو الريادة فنحن قد لا نحفل كثيراً بأمرها طالما أنّنا نستطيع أن نشتري ما نريد فلماذا بنا نحمّل أنفسنا عناء البحث والإنتاج.... تصبحون على ألف خير وعافية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق