Translate

الخميس، 27 سبتمبر 2012

ديناميات الغلو والتطرف


بعض أهم ما يشغلُ بال المصلحين، والمفكرين، والتربويين المسلمين اليوم، ظاهرة الغلو والتطرف في الدين، التي استشرت في أوساط الكثيرين من الشباب المسلم في معظم البلدان الإسلامية، ولئن كان دور النخب والأنظمة الحاكمة في استيلاد هذا الغلو في أنفس أولئك الشباب، في كثير من بلدان المسلمين ، جرَّاء سياساتٍ فاشلة، أمرا لا يمكن إنكاره ، فإن الدور الأشد خطراً يتمثل في ضعف ثقافة هذه الأجيال من الشباب، وضعف اطلاعهم -أو فهمهم- مضامين الكثير من آي القرآن الكريم ، والكثير من مفردات السيرة النبوية على صاحبها صلوات الله وسلامه.
أول ما أُطلقت عبارة (الثورات تأكل بنيها) كان عقب الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، فقد انقلب روبسبيير، أحد أقوى زعماء الثورة الفرنسية، على الكثيرين من أتباعه من أنصار الثورة فأعدم منهم المئات، ثم دارت الكأس عليه فأُعدِمَ مع جماعة من أنصاره بذات الطريقة التي قتل بها من قتل –المقصلة- ولم يتوقف القتل في فرنسا إلا بانقلاب الضابط الفرنسي نابليون، الذي أعاد فرنسا إلى حكمه الشمولي العسكري. ولكن ظاهرة "أكل الثورات بنيها" هي في الواقع أقدم من الثورة الفرنسية بكثير، بل إنها في الحقيقة ظاهرةٌ صاحبت وجود الإنسان على الأرض، ولا غرابة فيها إلا لمن لا يفهمون ديناميات عمل (الأيديولوجيا) في النفس الإنسانية ، وقابليات ومحفزات "التطرف" لدى الإنسان.
والتطرُّف ظاهرةٌ هي دائماً ما تصحب الأفكار الجديدة الواعدة/المنقلبة على أفكارٍ قديمةٍ بالية، فتُبالغ في تقديس الجديد، كرد فعل انتقامي من القديم الذي كان مقدساً (فالثورة البلشفيَّة، مثلاً، قامت بالأساس لنزع القداسة عن المؤسسات الدينية التي كانت أهم ركائز ورموز النظام الرأسمالي، ثم انتهى بها المطاف إلى إسباغ قداسة أكثر تطرفاً، على رموز الثورة وشعاراتها وأفكارها، إلى حد المسارعة في إعدام كل من يتم مجرد الشك في ولائه لتلك الرموز وتلك الشعارات والأفكار. فشهدت سيبيريا مصارع معظم قادة الثورة البلشفيَّة، على أيدي زملاء لهم، لمجرد الإحساس بأن ولاءهم للثورة لم يعد كاملاً !!).
الإسلام ، والقرآن العظيم ، مثَّل –على مدى التاريخ– أعظم حاجزٍ في وجه التطرُّف، وأصدق كاشف لأخطاره ، وأحكم محذِّرٍ من الوقوع  في دركاته ، بل جعل التوسُّط شرطاً لازماً لكون المرء مسلماً وكون الأمة أمة مسلمة: (وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) ورمزية التوسط هنا، التي تتيح "الشهادة" على الناس، هي رمزيَّةٌ تُفيد خصيصتين مكانيتين، هُما التوسُّط والعلو.. فالمعلوم، بالضرورة، معمارياً، أن أعلى كل بناءٍ أوسطه، يصدق ذلك على الهرم وعلى الجبل وعلى القصر وعلى القُبَّة وعلى كل بناءٍ ، فكون الأمة وسطاً يفيد في الوقت ذاته كونها أعلى مقاماً، وأقدر على الرؤية/الشهادة، على ما حولها، ومادام الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوسط هذه الأمة، فهو بالضرورة أعلاها، أعلى قمة هرم الأمة الوسط، أي بالنتيجة، أعلى قمة هرم الوجود الإنساني على الأرض، والأجدر بالشهادة على الأمة الشاهدة ذاتها.
ولكن التوسُّط، برمزياته العديدة في الخطاب القرآني، هو توسُّطٌ بإطلاق مدلول الكلمة وليس بنسبياتها، فهو توسُّطٌ مكاني، وزماني، وفكري، وسلوكي، واعتقادي، وشعائري، واجتماعي، واقتصادي. ولقد وردت مفردة "وسط" ومشتقاتها في كتاب الله العزيز في خمسة مواضع، بعدد الصلوات المكتوبة التي هي عماد دين هذه الأمة التي أراد الله لها التوسُّط "وآخرها آية تخصيص الصلاة الوسطى بالمحافظة" في أربع من تلك المواضع  تفضيلٌ صريحٌ للتوسُّط.
وفي واحدةٍ تقريرٌ خبريُّ في إطار قسم المولى بالعاديات الموريات المغيرات ، يفيدُ تفضيلاً مضمراً غير صريح ، لتوسُّط الخيل العتاق إذ (وسطن به جمعا). ثم وردت قيمة التوسُّط بمعناها دون اللفظ في عديدٍ من آيات الكتاب، مثل قوله تعالى (ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا) فاستغرق المعنى توسُّطاً اقتصادياً وسلوكياً، وجُعلت الحكمة وسطاً بين التفريط والإفراط.
التوسُّط هذا، هُو بالأساس موقفٌ إنسانيٌّ متسامحٌ مع طبائع الأشياء والخلائق، موقفٌ يُدينُ التطرُّف والغُلوّ، دون أن يتطرف أو يغلو في مواجهة التطرف والغلو، حتى بإزاء العدو المشرك المقاتل للمسلمين (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) والتوسُّط، في مقام الفكر –وهو ما يشارُ إليه بالمصطلح الحديث بصفة "الموضوعية"– هو ما أنتج نهضة الحضارة الإسلامية العظيمة التي شمل شعاعها الدنيا المأهولة كلها، ذلك أن الفكر المتطرِّف –مهما توسَّل بتعميم خطابه، كالإحالة إلى مصلحة الأمة ودين الأمة وعقيدة الأمة إلخ –هو فكرٌ ذاتيٌّ شحيح، عاجزٌ عن التجرد والرؤية من خارج الذات، أي عاجزٌ عن فعل (الشهادة) الذي أوكله الله إلى الأمة الوسط، فالشهادةُ مسؤوليةٌ لا يقدر عليها أهل الغلو والتطرف، لانغماسهم في هواجس ذواتهم الضيقة، وافتقارهم إلى القدرة على مخالفة إملاءات (عين الرضا) أو (عين السخط) التي  تحمل صاحبها إما إلى تأليه المشهود له، أو إلى تكفيره، إذ لا وسط!! (والأمثلة الصارخة، نراها يومنا هذا، في عديد من أصقاع العالم الإسلامي، حيث القتال بين المسلمين والمسلمين أشرس بما لا يقارن، من قتال المسلمين غيرهم من الغزاة، يتقاتلون تحت راياتٍ "إسلامية" وكلُّ طائفةٍ تُفتي بكُفر خصومها وارتدادهم وتستحلُّ دماءهم وأموالهم ونساءهم!! في الصومال يجري هذا، وفي أفغانستان، وفي العراق قتل المسلمون من المسلمين مئات أضعاف ما قتلوا من الغزاة الأميركان!!). على مستوى الموثُّق من مفردات السنّة النبوية الشريفة، العمليُّ منها على وجه الخصوص، كان لهذا التوسُّط مقامٌ مشهود في سنته صلى الله عليه وسلم، برغم أنهُ صاحب الرسالة والأجدر من بين جميع العالمين بأن (يتطرَّف) لها ويتعصَّب.
ولكن سلوكهُ بإزاء "المنافقين" الذين كشف الله لهُ بعضهُم ، كان يتسم بموضوعيَّةٍ معجزة، ورفقٍ باهر، بل إنّ نص وثيقة صلح الحديبية التي أملاها –صلى الله عليه وعلى آله وسلم– على الإمام علي ، يحملُ دلالةً على سعة أُفقه الإنساني وجلاء رؤيته للأمور في أُطرها الموضوعية، فقد افتتح الإمام علي –كاتب الوثيقة- الرسالة بالبسملة، كما تقتضي رسالة الإسلام: (بسم الله الرحمن الرحيم) فاعترض نقيب المشركين قائلاً "لا ندري ما الرحمن وما الرحيم"، بل اكتب "باسمك اللهم" فأمر، صلى الله عليه وسلم، علياً أن يكتبها كما أشاروا، ما دامت الصيغة تفي بمعنى البسملة.
ثم لما أراد الإمام علي أن يشير إلى النبي – كطرف من أطراف الصلح– بصفته التي أسبغها الله تعالى عليه: "محمد رسول الله" اعترض المشركون قائلين (لو كنا نعلم أنك رسول الله لما حاربناك)  فأقرَّ، صلى الله عليه وسلم، موضوعية اعتراضهم، وأمر علياً بأن يمحو "محمد رسول الله " ليكتب بدلاً عنها "محمد بن عبد الله"!! حتى تكاملت وثيقة الصلح بين الطرفين، على وجهٍ اعتبرهُ بعض أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم تنازلاً، حتَّى تساءلَ عُمرُ بنُ الخطَّاب –رضي الله عنهُ– ثائراً، يخاطب النبيّ عليه السلام (ألست رسول الله حقَّاً ؟ ألسنا على الحقِّ؟ فلمَ نعطيهم الدَّنيَّةَ في ديننا؟؟)، وكان من ثار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ينظرون إلى المسألة من وجهة نظر (أحاديّة) لا تخلو من "تطرُّفٍ"، وكانوا بحاجةٍ قصوى إلى هذا الدرس، الذي يجعلهم قادرين على رؤيةٍ أرحب للأمور، رؤيةٍ تعترف بأنهم ليسوا وحدهُم في هذه الدنيا، وبأن كونهُم على الحق يرتِّبُ عليهم مسؤولية هي ليست بالضرورة (إبادة) أهل الباطل، بل إفساح مكانٍ لهم على بساط الحق الذي يهنؤون به.
كان موقف النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم تجاه المشركين، الذي طالما جاهد كي يعلِّمهُ أصحابه والمسلمين، هُو موقف المُحِبِّ المشفق الحريص على هدايتهم، وليس المبغض الناقم عليهم أو الحريص على قتلهم، إذ كانت قوّة المسلمين عند صلح الحديبية تُسمحُ لهم، إن أراد النبي صلّى الله عليه وسلم الحرب، أن يقاتلوا قريشاً وينتصروا عليها بإذن الله، ولعل هذا ما جعل بعض أصحاب الرسول يعتبرون الصلح بصيغته تلك تنازلاً ليسوا مضطرين إليه!! ولكن من بعثه الله رحمةً للعالمين لم يكن لينهج نهج الملوك (الذين إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعِزّة أهلها أذِلّة) فقد كان حرصه على هدايتهم أعظم من حرصه على مدافعتهم، دع عنك قتلهم!!
ولقد استوقفني، في كلمةٍ مكتوبةٍ لأحد أشياخنا قبل أيام، استشهاده بعبارةٍ أُثرت عن الإمام العلامة ابن حزم الأندلسي، يقول في معناها إنهُ فرح حين علم بأن أحد عتاة المشركين الذين اشتد أذاهم على رسول الله مات على كفرهً، وأنهُ كان يكرهُ ذلك المشرك كراهيةً بررت فرحه بأن مات كافراً ولم يهده الله إلى الإسلام حتى ينجو!!، ولقد قال ذلك الشيخ، الذي نُجِلُّهُ، في بعض من يراهم من عتاة فُسَّاق زماننا هذا، ما قاله ابن حزم، متمنِّياً ألاَّ يهديهم الله إلى الإسلام حتى يموتوا على ضلالهم ويجدوا سوء عملهم في انتظارهم، أدهشني والله وأزعجني أن يقول الشيخ هذا القول، وهو يعلم ، وابن حزم الأندلسي يعلم، أن النبي صلَّى الله عليه وسلم كان يعاني حزناً عظيماً كلما مات رجُلٌ من مردة المشركين على شركه، وكان يتمنّى لو أنَّ الله تعالى جعل في يده هدايتهم إلى الإسلام، حتى خاطبهُ الله تعالى، مقدر الأقدار والقاهر فوق عباده (ليس عليك هُداهُم ولكن الله يهدي من يشاء) وفي تفسير هذه الآية من سورة البقرة، وآية آل عمران الأخرى (ليس لك من الأمر شيءٌ) وفي أسباب نزولهما، تأكيد عظيم من الله تعالى على حق الآخر، المشرك، والفاجر، والكتابي، حتّى في نفقة المسلمين، دون أن يكون في هذه النفقة عليهم أن يُسلموا، وحقهم في "العدل" حتى في خطاب النبي صلّى الله عليه وسلم، الذي، حين كُسرت رُباعيته يوم أُحُد قال عن المشركين: (كيف يُفلح قومٌ فعلوا هذا بنبيهم؟) فأوحى إليه الله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء).
 لقد كان محمدٌ صلّى الله عليه وعلى آله وسلم، يعلم تماماً أن طلقاء قريش، الذين تسامق على كل أذاهم وأحقادهم القديمة وعفا عنهم حين أقدره الله عليهم وأرغم له أُنوفهم ، كان يعلم أن إسلام الكثيرين منهم يجيءُ خوفاً ونفاقاً، ولكنهُ تركهُم مع ذلك، وعاملهم كما يعامل أصحابه، إذ لم يكن لينقطع رجاؤه أن يهدي الله قلوبهم ولو بعد حين، ولم ييأس من رحمة الله عليهم وهدايته إياهم ذات يوم، لم ييأس ولم يستبعد أن يهدي الله أحداً، إلا أولئك الذين أيأسه الله من هداهم، ممن نزل فيهم قرءانُ يؤكد مصيرهم إلى النار، أمّا غير أولئك، فلطالما تسامى، عليه صلوات الله وسلامه، على بشريَّته، فأعتق من حكم عليهم (بالإعدام) ممن اشتد عليه أذاهم وبلغ شأواً عظيماً، وفي كتب السيرة يجد من شاء قصة عبد الله بن أبي السرح.
تُرى، أيهم كان أشد أذىً للإسلام والمسلمين: هؤلاء الذين يبغضهم ذلك الشيخ، أم أولئك الذين قذفوا سيد البشر بالحجارة، وأغروا به صبيانهم يشيعونهُ كالمجنون، يسبونهُ ويشتمونهُ ويسخرون منهُ.. لقد أتاهُ جبريل، في تلك اللحظة، وهو في قمة وجعه وحزنه، وهُم في أوج أذاهم، ليخبرهُ أن "مَلَكُ الجبال" يستأمرهُ أن يطبق الأخشبين على هؤلاء الكفرة فيبيدهم، ولكنهُ، عليه صلوات الله وسلامه، كان يرجو، حتى في أولئك الكفرة الفجرة الجهلة، خيراً. فأمر جبريل ألاَّ يفعل.. كان يرجو –إن لم يهدهم الله– أن يُخرج من أصلابهم قوماً يعبدونه !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق