Translate

السبت، 26 يناير 2013

الربيع العربي بين الثورة والانتفاضة

عن "قناة الجزيرة" للكاتب الليبي: صالح السنوسي
طرحت ما عرفت بثورات الربيع العربي أسئلة عدة حول هويتها واكتسابها صفة الثورة، وحول شرعيتها السياسية، وهي تساؤلات تتعدد إجاباتها وقد لا تكون أي منها هي الإجابة الوحيدة الصحيحة.
لاشك أن التاريخ الإنساني يعج بالصراعات الاجتماعية ومحاولات التغيير التي جرى تصنيف بعضها على أنها ثورات وجرى تصنيف بعضها الآخر على أنها انتفاضات وحركات تغيير، وإذا نظرنا إلى المعايير التي يتم على ضوئها التمييز بين ما يعتبر ثورات وبين ما يوصف بحركات التغيير والانتفاضات، فإننا نجد بعض هذه المعايير غير متوفر في ما عرفت بثورات الربيع العربي.
فلم تكن ثمرة تخطيط مبيت يعكس جهدا منظما وموجها من قبل قيادات اختارت ظروف ولحظة تفجير الفعل الثوري لتغيير الواقع الاجتماعي والسياسي  وإحلال فكر وأيديولوجيا بديلة تمثل رؤية ومصالح طبقة اجتماعية جديدة، بل إن البعض لا يرى في ثورات الربيع العربي نماذج من الثورات الكبرى التي عرفها التاريخ.
فهي ليست مثل الثورة الفرنسية التي سبقها عصر الأنوار وكان بمثابة قطيعة معرفية وثقافية مع ما سبقه، فكانت الثورة السياسية تتويجا لمشروع فلسفي يقوم على ثلاثية العقل والحرية والإرادة في مواجهة اللاهوت الديني والتراتبية الاجتماعية، كما أنها لم تكن كالثورة البلشفية التي قامت تجسيدا للأيديولوجيات الماركسية فسودت طبقة اجتماعية واحدة وألغت بقية الطبقات.
ليس هناك خلاف بشأن حقيقة أن ثورات الربيع العربي لم تقم بها طبقة اجتماعية تحمل مشروعا اقتصاديا واجتماعيا ثقافيا، ولهذا فهي ليست ثورات اجتماعية وثقافية، بل هي في نظرنا انتفاضات تاريخية تحولت إلى ثورات سياسية وذلك لأسباب عدة منها:
1- أنها استهدفت الأنظمة السياسية باعتبارها دكتاتورية فاسدة رافضة للإصلاح، فالشعار المشترك بين كل هذه الثورات السياسية في مختلف أقطارها هو إسقاط النظام ومن على رأسه.

2- كل شعارات التحشيد التي تميزت بها هذه الثورات تجد مرجعيتها في وقائع تشكل جرائم ذات بعد سياسي في أغلبها، فالسجن والتعذيب والإعدامات والمذابح الجماعية والانحراف الأخلاقي في سلوكيات المسؤولين كلها تتعلق بمبادئ وقيم مثل الحريات المتعلقة بالتعبير والاعتقاد والاختيار ومثل الحقوق السياسية وحقوق الإنسان. هذه القيم والمبادئ من المفترض أن تقنن أفعال السلطة السياسية.
3- لم تكن المطالب والشعارات التي رفعتها هذه الثورات ذات مرجعيات اجتماعية طبقية، فلم يرد في أدبياتها المفاهيم الطبقية كالبورجوازية والرأسمالية وإنما كانت تستهدف فئات لا يمكن تصنيفها اجتماعيا، فهي أقرب إلى الزبونية السياسية للنظام منها إلى طبقة اجتماعية متميزة بنواميسها وثقافتها وأعرافها المتوارثة وتستغل الطبقات الأخرى بفضل امتلاكها للثروة ووسائل الإنتاج، بل ينظر إلى هذه الفئة على أنها تتكون من شريحتين، أولاهما تمثل لصوص المال العام المتحلقين حول السلطة، والثانية تمثل عصابات الإجرام السياسي التي يستخدمها النظام في أجهزته ومؤسساته للدفاع عنه في مقابل ما تتمتع به من امتيازات وحظوة سياسية.

4- كل المطالب أو معظمها التي ترسم أفق المستقبل تنصب على مؤسسات الدولة السياسية أي مؤسسات السلطة من حيث كيفية بنائها وممارستها وقواعد لعبة تداولها مثل السلطة المنتخبة والحرية السياسية والديمقراطية وتداول السلطة والتعددية.

لعل هذا ما يميز هذه الثورات العربية السياسية عن تلك الثورات المؤدلجة التي استهدفت إلى جانب السلطة السياسية البنيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في بلدانها، ولعل أيضا غياب الأيديولوجيا في الثورات العربية يرجع إلى انحسار الأيديولوجيا كمحرك للصراع بعد أن تعرضت مسلماتها والتجارب التي بنيت عليها إلى انتقادات ومراجعات أفقدتها الكثير من مصداقيتها وزخمها بين الجمهور والنخبة.
تعتبر ثورات الربيع العربي إحدى الانتفاضات التاريخية الكبرى كما يسميها  الفيلسوف الفرنسي "ألان باديو" الذي يصنف الانتفاضات إلى ثلاثة أنواع، منها ما هي انتفاضة جزئية ومحدودة وآنية كرد فعل على حدوث واقعة ظلم، والنوع الثاني من الانتفاضات هو تلك التي تكون تعبيرا عن صمت مكبوت تفجر بسبب حدث عارض، أما النوع الثالث هو الانتفاضة التاريخية التي يتواصل فيها زخم الفعل الثوري حتى يخلق وقائع تفتح أفاقا تاريخية جديدة.
لقد تحولت حالة الرفض لطغيان وفساد الأنظمة وانسداد أفق المستقبل السياسي أمام هذه الشعوب إلى حالة تمرد عفوي ارتقى إلى مرحلة الفعل الثوري المتميز بوضوح الهدف وبثبات الزخم الجماعي الذي يتغذى من ارتفاع سقف التضحيات، وذلك من مميزات حركات التغيير الكبرى.
لا شك أن التغيرات التي وقعت في بلدان الربيع العربي تحمل سمات تجعلها تدخل في نسق حركات التغيير الثورية الكبرى في بعدها السياسي، ومن أهم هذه السمات:
أولا- لم تكن مجرد احتجاجات ترفع مطالب إصلاحية في ظل النظام السياسي القائم، بل استهدفت وأطاحت بالنظام وبنياته السياسية.
ثانيا- اتخذ الصراع مع الأنظمة طابعا مفتوحا ليس فيه سقف للتضحيات، فأذكى روح الفعل الجماعي الذي تتميز به الثورات والذي كان مفقودا من قبل في هذه المجتمعات بالتالي ارتفعت نسبة المشاركين في الفعل الثوري من كل فئات المجتمع فعبرت عن حالة رفض عام على اتساع  الرقعة الاجتماعية والجغرافية.
ثالثا- رفعت شعارات تحمل مفاهيم ومبادئ وقيما تتناقض مع تلك المفاهيم التي كانت تقوم عليها ركائز الأنظمة الحاكمة، فتحققت بذلك حالة النفي للواقع السياسي القائم، وهي السمة الجوهرية المشتركة بين جميع الثورات التي نتجت عنها تغيرات تاريخية كبرى.
إذن ما حدث في هذه البلدان هي -في نظرنا- ثورات سياسية لم تسبقها ثورات ثقافية تنويرية، ولم تقدها طبقة اجتماعية تحمل مشروعها الاقتصادي السياسي والاجتماعي الثقافي ضمن رؤية فلسفية أيديولوجية تقطع جذريا مع ما سبقها.
وبصرف النظر عن الجدل الثقافي والسياسي الذي يجرى حول تصنيف ما حدث من تغيرات في بلدان الربيع العربي، فإن الأهم هو شعور هذه الشعوب بوجه عام بأن هناك تغيرا كبيرا قد حدث، وأنها شاركت في صنعه لأول مرة في تاريخها.
لقد ملت هذه الشعوب وكرهت كلمة ثورة نظرا لارتباطها المزمن بالانقلابات العسكرية التي تعاقبت على المنطقة منذ أكثر من نصف قرن، وذاقت هذه الشعوب خلاله ألوان الكبت والاستبداد، فأصبح في لاوعي هؤلاء -سواء أكان خطأ أم صوابا- تلازم بين الثورة والقهر والاستبداد، حتى إنه في بعض هذه البلدان مثل ليبيا يتحاشى بعض الناس وصف ما جرى بالثورة وذلك لكي ينأوا بها عن شبهة التماثل مع ما كان يتردد ليلا نهارا طوال أربعين عاما ذاقوا فيها أصناف الذل والظلم.
ولهذا نجد البعض يقول -على سبيل المثال- تزوج فلان قبل الأحداث، أو اشتريت تلك السيارة بعد الأحداث. هكذا يصفها بالأحداث وليس بالثورة، لأن هذه الأخيرة تعتبر في نظره مسبة لا تليق بوصف التغيير الذي حدث وشارك في صنعه.
لقد اتخذت ثورات الربيع العربي مظهر التغيير الثوري السياسي وذلك نظرا لاختلاف بيئتها الاجتماعية والثقافية عن تلك التي احتضنت ثورات القرنين الثامن والتاسع عشر، ولكن إذا نجحت في تحقيق مبادئها  وقيمها من خلال ترسيخ البنيات السياسية والقانونية التي تقوم على تلك المبادئ والقيم، فإن أفق التغيير الثقافي والاجتماعي سينفتح ويتسع كلما تجذرت مبادئ وقيم الثورة السياسية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق