الهند الأصليّة قبل إنفصال باكستان وبنغلاديش
منذ زمن ليس بالبعيد كان العالم كلّه ينظر إلى الهند على أنّها دولة متخلّفة وتعتبر من بين دول العالم الثالث، ويعاني أهلها من الفقر والجوع والجهل. تلك الصورة النمطيّة مازالت تلاحق الهند حتّى يومنا هذا مع أن العالم أصبح ينظر إلى الهند على أنّها القوة الصاعدة الكبرى وسوف تتنافس مع بلاد أخرى مثل الصين وإندونيسيا والبرازيل على الريادة الإقتصاديّة والصناعيّة في العالم، وهناك الكثيرون ممّا يرجّحون الهند قبل غيرها بما في ذلك الصين نفسها.
الهند قامت بعمل الكثير خلال العقود الثلاثة الماضية من أجل تطوير إقتصادها وتعليمها وصناعتها والخدمات الإجتماعيّة لصالح شعبها. وعلى المستوى السياسي، تعتبر الهند بكل المقاييس الدوليّة دولة ديموقراطيّة منذ إستقلالها عن بريطانيا عام 1947.
المعروف عن الهند بأنّها أكبر ديموقراطيّة في العالم أجمع قياساً بعدد السكّان 1.3 بليون (الصين 1.4 بليون) وبمقدار المشاركة الشعبية في إختيار أعضاء المجلس التشريعي. المعروف أن دستور الهند الذي تمّت صياغته في عام 1950 يعتبر أكبر دستور في العالم أجمع، حيث يحتوي على 444 مادّة دستوريّة، ويعتبر كذلك من أكثر دساتير العالم ديناميكيّة حيث تم تعديله 100 مرة منذ تأسيسه وحتى اليوم.
حزب المؤتمر الوطني كان أوّل حزب يحكم الهند منذ الإستقلال وكان ذلك بقيادة جواهر لال نهرو الذي حكم الهند لمدة 17 سنة كنتيجة لإنتخاب الشعب المتكرّر لحزبه.
بعد وفاة نهرو حلّت إبنته إنديرا محلّه لرئاسة الحزب، وهنا توجد قصّة لابدّ من التعرّض إليها لأنّ الكثير من الناس لا يعرفونها وعرفت بها عن طريق صديق هندي مطلع وعارف لما يدور في بلاده، حيث قال لي بأن إنديرا نهرو كانت قد وقعت في غرام صحفي هندي مشهور إسمه فيروز خان، وهو كما يشير إليه إسمه مسلم مما إضطرّها لأن تعتنق الدين الإسلامي وتصبح مسلمة. كان لإسلام إنديرا نهرو وقع سلبي في الهند، وكاد حزب المؤتمر أن يفقد زخمه الإنتخابي لولا تدخّل المهاتما غاندي لصالحها حيث عرض عليها إستخدام إسمه كلقب لها ولزوجها، وبذلك ضمنت حب الشعب الهندي لها من خلال حب الهنود للمهاتما غاندي.
بالفعل، ذلك ما حدث تماماً، فقد غيّرت إنديرا إسمها رسميّاً من إنديرا جواهر لال نهرو إلى إنديرا غاندي، وأصبح زوجها رسميّا يعرف ب فيروز غاندي، وبذلك فازت في الإنتخابات البرلمانية ونسى الهنود بأنّها مسلمة وأصبحت هي رئيسة وزراء الهند بدورها لمدّة 15 سنة إلى أن تمّ إغتيالها في عام 1984 حيث إستلم إبنها سانجاي غاندي رئاسة الحزب وأصبح رئيس وزراء حكومة
الطوارئ إلى أن قتل في حادث فإستلم أخوه راجيف غاندي رئاسة حزب المؤتمر الهندي وأصبح راجيف غاندي رئيساً لوزراء الهند إلى أن تم إغتياله، فتولّت زوجته الإيطالية سونيا غاندي رئاسة الحزب من بعده ولكن بكل خجل حيث لم تكن مهتمة كثيراً بالسياسة. رفضت سونيا غاندي إستلام رئاسة الوزراء نظراً لأصولها الإيطاليّة وبأنّها لا تريد خلق كراهية للشعب الهندي لحزب المؤتمر بسببها، وسلّمت الحزب فعليّاً لإبنها راحول غاندي.
بمجرّد إغتيال إنديرا غاندي بدأت الهند تشهد إنتشار الفساد وكثرت الإغتيالات وكادت الهند أن تفقد بريقها الديموقراطي لولا تدخّل الساسة الهنود من أجل إنقاذ بلادهم ولو كان ذلك على حساب التنازل على سلالة غاندي الشهيرة، وبالفعل إنتقل الحكم من حزب المؤتمر إلى حزب براتيا جاناتا الذي أحدث تغييرات جذريّة إشتملت على قوانين جديدة للنزاهة وتظافة اليد وكذلك تشريع قوانين إقتصادية عصريّة أعادت الهند إلى بريقها في فترة الخمسينات ولكن بمقاييس عصريّة.
أخذت الهند تتقدّم في كل المجالات وكان من بينها إستكشاف الفضاء، حيث أرسلت الهند عربة فضائية إلى كوكب المرّيخ في عام 2014 وكانت المهمّة ناجحة فدخلت عربة الفضاء الهنديّة مدار الكوكب وكانت بذلك أوّل دولة في العالم تتمكّن من النجاح في أوّل محاولة من هذا النوع، وكانت أوّل دولة أسيوية تحقق ذلك النجاح في سبر أغوار الفضاء.
الطريف في الأمر، أن تلك الرحلة إلى كوكب المرّيخ كانت قد كلّفت الهند 20% فقط مما أنفقته الولايات المتحدة على نفس المهمّة من قبلها. الهند أبهرت العالم من حولها من خلال نتائج تلك الرحلة الفضائيّة الناجحة والرخيصة جدّاً بالمقارنة، فبدأت عيون العالم تتجه نحو الهند، وكان من بين تلك العيون شركة البوينج الأمريكيّة لصناعة الطائرات ومهمّات الفضاء.
هكذا كانت صناعة السيارات الهندية
شركة البوينج تواصلت في الأسبوع الماضي مع الشركة الهنديّة الناجحة لإنتاج السيارات المسماة "تاتا"، وتلك أيضا لها قصة نجاح مشهودة ومعتبرة، فقد نجحت هذه الشركة التي كانت صغيرة ومتواصعة عند تأسيسها ... نجحت هذه الشركة في تطوير صناعتها بأسرع وقت ممكن، وأصبحت سياراتها المنتجه عن طريقها تدخل المنافسة الدولية في صناعة السيّارت. شركة البوينج عرضت على "تاتا" العمل معاً من أجل تطوير كل وسائل النقل الجوي والعمل معاً في مجال تطوير الرحلات الفضائية، وكذلك في مجالات الإتصالات والصناعات العسكريّة.
وهكذا أصبحت صناعة السيالرات الهندية من خلال شركة "تاتا" لصناعة السيّارات
من هنا نرى كيف إستطاعت الهند أن تفرض وجودها على العالم من خلال إصرار مواطنيها وكبار الساسة فيها على الرفع من مكانة بلادهم برغم المشاكل الجمّة التي تعاني منها الهند بسبب وجود مالا يقل عن خمسة ألاف لغة في الهند، وبسبب الديانات المختلفة والتي منها الهندوسية والإسلام والسيخ، وكذلك الكثير من الديانات البدائية الأخرى التي تنتشر في الهند. إستطاعت الهند برغم كل ذلك أن تخرج من دائرة التخلّف ودخلت حلبة الدول الكبرى، وسوف تصبح الهند أكبر دولة صناعية في العالم خلال الخمسين سنة القادمة حسب إجماع أكبر الإقتصاديين في العالم.... سرّ نجاح الهند ون جاراتها المحيطات بها يكمن في إنتهاجها النظام "العلماني" الذي يؤمن بالتعددّية الدينيّة ويحترمها، لكنّه يمنعها من دخول معترك السياسة حتى لا يفسد الصراع الديني فن "الفتلكة" السياسة.
في المقابل، نجد باكستان التي إنفصلت عن الهند في عام 1947 وهي تصارع من أجل البقاء كدولة متماسكة بعد أن إنتشر فيها الفساد ونخرها الإرهاب والتشدد الديني، والجار الآخر للهند هو بنغلاديش التي إستقلّت عن الباكستان في عام 1971، وهي تعتبر أفقر دولة في أسيا، ومن أفقر دول العالم قاطبة. بنغلاديش هي بدورها ينتشر فيها الإرهاب والتشدّد الديني ويسيطر عليها تنظيم القاعدة. سبب فشل كل من الباكستان وبنغلاديش الذريع هو سيطرة رجال الدين على القرار السياسي في هذه البلاد، وخضوع السياسة لسلطة مفاتي الدين. الدين لا يمكنه إطلاقاً أن يسوس دولة، وإنّما مكان الدين هو دور العبادة وتبصير الناس من خلال حلقات النقاش بأمور دينهم وتفسير ما يصعب عليهم فهمه من العبادات ليس إلّا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق